ليس جديداً على خشبة المسرح السياسي في المنطقة، ولا طارئا عليه، أن يحتل الحدث المصري صدارة الواجهة، وأن يستقطب اهتمامات تفوق كل ما تستقطبها الوقائع الجارية على غيره من المسارح الأخرى؛ انطلاقاً من مركزية الأوزان الراجحة، والحقائق الموضوعية المستقرة في هذه الرقعة الجغرافية التي تتموضع فيها مصر في موضع القلب بين الجناحين: الشرقي والغربي للعالم العربي.لقد ظلت مصر في كل العهود السابقة، تملي نفسها بقوة على الحياة السياسية العربية، وتؤثر على أبعد الحدود في تشكيل وإعادة تشكيل خريطة التوازنات العربية، حتى قيل إن عافية العرب من عافية مصر، وسقمهم من سقمها أيضاً؛ وأنه لا تقوم قائمة لهذه الأمة إلا إذا كانت “الكنانة” في كامل عنفوانها، تماماً على نحو ما تحكيه لنا حال العرب مع الشقيقة الكبرى في كل مراحل الصعود والهبوط السابقة.وإذا كان هذا الاستخلاص صحيحاً فيما مضى من زمن، وكانت درجة الانفعال والتفاعل بين مصر ومحيطها العربي الواسع أمراً مسلماً به على أوسع نطاق، فإن مثل هذا الاستنتاج يبدو اليوم أكثر صحة من ذي قبل، بعد انفجار ثورة المعرفة وسيادة عصر الفضائيات والإنترنت؛ إذ بات كل تفصيل صغير من تفاصيل الحياة السياسية في مصر وخارجها، ملك يمين سائر المتابعين فور حدوثه.هكذا، بدت عملية الاستفتاء على الدستور المصري، خلال الأيام القليلة الماضية، بمثابة شأن عربي عام، راح ينافس بشدة المأساة السورية والانفجارات العراقية، ويستولي على اهتمام ملايين العرب المشغولين بشؤونهم الخاصة، إن لم نقل إنه زاحم غيره من الأحداث الجسام في عدد من البلدان العربية الأخرى، من تونس إلى ليبيا إلى اليمن، ناهيك عن فلسطين، وتقدم عليها بجدارة مبررة، لكأن هذا الاستفتاء الذي له ما بعده، يخاطب العرب والمصريين بذات الدرجة.وبالفعل، فإن انطلاق القطار المصري من محطته الأولى، بكل هذا الزخم الذي تجلى في إقبال الملايين على الصناديق، يقدم إشارة حاسمة الدلالة على أن ما بعد هذا الحدث لن يكون كما كان قبله، بعد أن نجح تحالف الشعب والجيش والشرطة في وضع حجر الزاوية لنظام سياسي معزز بالشرعية الدستورية، ومن ثم سد تلك الثغرة التي كانت تهب منها رياح باردة منذ الموجة الثورية الثانية قبل نحو ستة أشهر.وكما كانت كل المتغيرات التي شهدتها مصر على مدى السنوات الثلاث الماضية، ذات تأثير بالغ ومباشر على سائر التطورات الجارية بعد في العالم العربي، فإن من المؤكد أن عبور المصريين، بنجاح لافت، برزخ هذه المرحلة الانتقالية، واجتيازهم العوائق الموضوعية والمصطنعة، برشاقة سياسية بالغة، أمر سيفتح أبواباً واسعة أمام فيض من التداعيات الإيجابية المماثلة، خاصة على المعادلات الداخلية في الجوار العربي، الذي تبدلت أوزان قواه الداخلية، منذ أن دالت دولة أكبر حركة إسلام سياسي عابرة للحدود.ولعل ما آلت إليه أحوال جماعة الإخوان المسلمين من مأزق لم تمر به من قبل، وهي جماعة كانت في أوج صعودها قبل نحو سنة فقط، يؤكد مدى اتساع حالة التداخل والتفاعل بين مصر ومحيطها العربي، لاسيما وأن “الجماعة” التي ما تزال في طور الصدمة، هي عمود الوسط في خيمة التنظيم الدولي لهذه الجماعة، وأمه المرضعة. الأمر الذي يشرح بأبلغ العبارات كل هذا الاضطراب المتفاقم الذي يعيشه “الإخوان” كافة، منذ هبوطهم عن عرش مصر، وإخراج أنفسهم من اللعبة السياسية.واذا كان لأحد أن يجادل في صحة هذه القراءة، أو أن يشكك في مضاعفاتها السلبية الواسعة على مبنى “الجماعة” في محيط مصر المجاور، فإن عليه أن يلقي نظرة عاجلة على فرعها في قطاع غزة مثلاً، كي يرى رؤية العين مفاعيل المتغيرات المصرية العميقة على حاضر ومستقبل الفرع الفلسطيني لهذه الجماعة، أي حركة حماس التي خابت آمالها، وسقطت رهاناتها، واحتدمت مشكلاتها المصيرية دفعة واحدة، غداة انهيار الحائط الذي استندت إليه في جبل المقطّم، وانغلاق الباب الوحيد المفضي إلى إقامة إمارتها في القطاع المحاصر.issa.alshuibi@alghad.joissa_alshuibi@
9
المقالة السابقة
تحت الهواء 17/1/2014
المقالة التالية