هل نحن في مطلع السنة الجديدة ندشن عهد صراع داخلي مرير في أم الدنيا بعد أن تأملنا في نخبها المدنية والعسكرية خيرا حتى يثوب الرشد إلى شعب حبيب له في قلب كل عربي خالص التقدير والعرفان، بل إن ضرب مصر اليوم هو ضرب العرب في الصميم وتدمير للقلعة الفكرية والحضارية لتاريخنا العربي ومصير العرب.”
يقف المرء في هذا الهزيع الأخير من السنة الراحلة وهو مندهش عندما يلتفت وراءه ليقيم 12 شهرا من الأحداث الجسيمة التي يشيب لهولها الولدان ويحاول أن يكون مؤمنا حقيقيا أي يتحلى بفضيلة البصر والبصيرة ويعتبر كأي مسلم من أولي الألباب بما هز العرب والمسلمين من عواصف خلالها. فالعام 2013 أعقب حولين كاملين من التحولات الخطيرة والحبلى بالأمل والرجاء عندما انتفضت بعض شعوب العرب على أنظمة جمعت بينها مساوئ حكم الأسرة والأنجال والأصهار وحصلت الجماهير فيها تقريبا على مكسب واحد وهو الحرية لكنها تحولت مع الزمن ومع إنعدام البوصلة إلى فوضى فاختل الأمن وهو الأساس لكل تقدم وساءت حالة العيش الكريم للمواطن بسبب غلاء المواد الضرورية لمعيشته وتدهور لمقدرته الشرائية أضف إليها ما يخشاه المواطن من انسداد الآفاق وهروب الأمل مع نشأة ظواهر كانت من قبل هامشية أو منعدمة مثل ظاهرة الإرهاب وظاهرة الاستخفاف بالقانون وظاهرة الانحلال الأخلاقي والقيمي. ولو حاولت أيها القارئ الحصيف أن تجد قواسم مشتركة بين هذه البلدان التي اهتزت وانتفضت لاكتشفت أن الذي حدث فيها جميعا هو تقلص الدولة كمؤسسة راعية لمصالح الناس وحارسة لحقوقهم وحامية لأملاكهم وأعراضهم وهو أخطر ما أصاب هذه الأمة وأعتقد أن سبب هذا التقلص كان عدم التفريق بين منظومة الحكم الفاسد وبين الدولة فارتكب كل من تسلم الحكم بعد الربيع العربي خطأ النرجسية الحزبية أو الشخصية واعتقد أن تاريخ بلاده يبدأ من يوم تسلمه السلطة ناسيا نصيحة نيلسن مانديلا التي بعث بها للعرب يوم 10 أغسطس 2011 وهي أن الدول الجديدة لا تبنى على فراغ بل تؤسس على الدول القائمة بخبرائها ومسؤوليها غير المنحازين وغير المتحزبين لكن الذي حدث هو محاولة يائسة وبائسة لوضع أسس الدولة المنتظرة على عدم وفراغ وتوظيف كوادر موالية عوض الكوادر الكفوءة فتعطل قطار الاصلاحات بل تفاقم عجز الدولة وتراكم الظلم الاجتماعي وازدادت نسبة الباحثين عن عمل وغرقت الجهات المهمشة والمحرومة في أكثر تهميشا وأشد حرمانا وهدد نفس الشباب الغاضب بالنزول للشوارع لتصحيح المسار وإسقاط أنظمة جديدة عاجزة عن الإيفاء بوعود خلابة تقدمت بها للمواطنين في لحظات الزهو والنصر. الذي حدث أننا في تونس ننتقل من حكومة مؤقتة إلى حكومة انتقالية ثم إلى حكومة تمهيدية وهي اليوم الحكومة الخامسة في ظرف سنوات ثلاث من حالة الجمع العجيب بين فضائل الحرية و مساوئ الفوضى. فقد أخطأنا الانطلاق في تونس رغم اعترافي بأن تونس نسبيا في أفضل حالات الانتقال الديمقراطي لو قارناها بشقيقاتها. أخطأنا حين تسرعنا في إنشاء مجلس تأسيسي وطني على عجل فتفرعت عنه رئاسات ثلاث واحدة للجمهورية ظلت بلا أية صلاحيات جدية ترقى إلى مستوى رأس الدولة فجاءت مؤسسة الرئاسة مهما كانت شخصية من يرأسها عديمة الجدوى فاقدة لمقومات التحكيم والمبادرة تأكل نصيبا من ميزانية الدولة بلا مردود. ثم مؤسسة للحكومة برئيس حكومة له كل المسؤوليات التنفيذية لكنه يجر أغلال تركة ثقيلة من التقاليد البالية ويتحمل أعباء التعطيلات والمؤامرات ولا يجد سبيل للإصلاح ولا لخلق الثروة ولا حتى للإيفاء بمستحقات الثورة فانحبس الإستثمار وهزلت السياحة واغتيلت شخصيات سياسية رغم أن مصالح مخابرات أجنبية نبهت الحكومة إلى استهدافها. ثم انتخب أحد السياسيين المخضرمين لرئاسة المجلس التأسيسي فأخل بالوعود و تجاوز المجلس المدة التي فرضها على نفسه فلم ينجز لا دستورا و لا حتى اتفق على هيئة وطنية للإشراف على الانتخابات القادمة.
أما في مصر فقد شهد العام الراحل انقلابين: الأول انقلاب الرئيس المنتخب بالكاد محمد مرسي على أسس الدولة المصرية ذات العمود الفقري العسكري فأقال المشير طنطاوي معلنا العداء ضد الركن التقليدي القوي للدولة المصرية وهو الركن الذي يتحكم في مفاصل الدولة منذ محمد علي أواسط القرن التاسع عشر و ليس كما يقول البعض منذ ثورة 23 يوليو 1952 ثم أصدر مرسي البيان الدستوري الذي منح لنفسه فيه سلطات لم تكن حتى لفرعون عوض التعاون مع بقايا الدولة الموجودة والماسكة بأهم مجالات البلاد الحيوية فكان هذا الخطأ الأكبر للإخوان المسلمين أي الخطأ الذي سهل مهمة أعداء الإخوان فضربوهم بشدة معتمدين على مباركة أغلب مكونات المجتمع الدولي (أي الغرب) ووقع ما لم يكن في حسبان أكثر الملاحظين متابعة للشأن المصري وهو ليس فقط عزل الرئيس مرسي بل ملاحقة قضائية لا تقنع الضمائر بيسر لكل من لف لف الإخوان ثم أعلن الحكام الجدد عن قرار لم يجرأ على إتخاذه حتى الملك فاروق في عز أزمته مع الإخوان وحتى عبد الناصر حينما شنق المفكر سيد قطب سنة 1966 وهو قرار إعلان الجماعة منظمة إرهابية وأصبحنا نسمع أخبار انفجارات سيارات مفخخة ومداهمات لمراكز الأمن والجيش مما سيفتح أبوب المجهول في وجه شعب عريق الحضارة ثري الثقافة حاد الوعي تعود على التعايش السلمي المثالي بين كل مكوناته وطوائفه وطبقاته. فهل نحن في مطلع السنة الجديدة ندشن عهد صراع داخلي مرير في أم الدنيا بعد أن تأملنا في نخبها المدنية والعسكرية خيرا حتى يثوب الرشد إلى شعب حبيب له في قلب كل عربي خالص التقدير والعرفان، بل إن ضرب مصر اليوم هو ضرب العرب في الصميم وتدمير للقلعة الفكرية والحضارية لتاريخنا العربي ومصير العرب.
سنة 2014 لن تنهي الحرب المدمرة في سوريا وستبقى الشام بؤرة تفجيرات وتفجيرات مضادة ويمتد اللهيب الملعون إلى أشباح الحقد الطائفي يوقظها وهاهي بيروت تضمد جراح تفجير الجمعة الماضي ومصرع محمد شطح وتستعد لأسوء الاحتمالات كما أن سنة 2014 لن تعيد لليبيا أمنها بعد أن رزح شعبها الكريم حوالي نصف قرن تحت قيادة زعيم غريب الأطوار ألغى الدولة وصنع مسخا من الأوهام السياسية لا تزال آثاره حية إلى اليوم. ويتواصل القتل في العراق وينزلق جنوب السودان في حرب أهلية واليمن مهدد بعودة شبح الانقسام. فالأيام التي قال الله في كتابه الحكيم أنه يداولها بين الناس كفيلة بالجواب عن أسئلتنا اللجوجة الحائرة ونحن نفتح كتاب السنة الجديدة جعلها الله عليكم طالع خير وأمن وبركة وسعد اللهم أمين.
د.أحمد القديدي/2013 سنة الزوابع و التوابع
8
المقالة السابقة