يصعب فهم ما يجري في لبنان من تصاعد في التأزم السياسي والأمني، في الجانب الداخلي منه المتعلق بالاستحقاقات الحكومية والرئاسية والبرلمانية والأمنية، من دون ربطه بتفاصيل ما يجري في عدد من دول المنطقة.
بل إن كل تفصيل في هذه الدولة أو تلك يكاد يحمل أوجه الشبه أو التماثل مع الأحداث في لبنان، السياسية والأمنية، في شكل يستدعي الاعتقاد أننا أمام مشهد واحد، لساحة واحدة تمتد من البحرين واليمن، الى العراق وسورية وصولاً الى لبنان.
وكل ما يتصل بأوضاع هذه الدول وموجات التوتر والتصعيد التي تتعاقب عليها، ليس مفصولاً عن تلك التطورات الحاصلة دولياً، سواء ما يتعلق منها بمؤتمر جنيف – 2 ومسار التفاوض على الأزمة السورية وعلى النفوذ في بلاد الشام، أم في ما يتعلق بتفاوض الدول الكبرى مع إيران على ملفها النووي.
أفلتت الضوابط في بعض هذه الدول وانعكس الأمر على غيرها كالأواني المستطرقة وبات التحكم بالأحداث متعذراً. إلا أن هناك من أطلق الشرارة في كل منها في الأساس وبات عاجزاً عن توقع رد الفعل على الفعل.
وقد يسأل المرء مثلاً ما الذي يربط ما جرى ويجري في محافظة الأنبار العراقية والتفجيرات في بغداد ومدن أخرى بما يحصل في صعدة في اليمن، وبالتصعيد المتواصل في حلب وقصفها المتواصل منذ أكثر من 3 أسابيع ببراميل البارود، وبتفجير ستاركو في قلب بيروت الذي أدى الى استشهاد الوزير السابق المسالم والمعتدل محمد شطح، وبالتفجيرات التي تطاول الضاحية الجنوبية لبيروت منذ 3 أشهر وآخرها أمس، التي تستهدف الأبرياء والمواطنين العزل، مثلها مثل طرابلس التي سبق أن استُهدف فيها المصلون أمام مسجدين، الصيف الماضي.
وقد لا يبدو الرابط منطقياً أو واقعياً لاختلاف ظروف كل دولة من دول هذه الساحة العريضة والواسعة الأطراف. إلا أن القواسم المشتركة بينها تتيح إظهار أوجه الشبه.
ففي هذه الدول جرى إضعاف الدولة المركزية، بهذا القدر أو ذاك، فلم تعد ناظماً للتوازنات السياسية بين القوى الاجتماعية المذهبية والطائفية والقبلية. وهو ما يسمح بفلتان الغرائز وطغيان مصالح الفئات على المصالح الجماعية التي ترسم الدولة حدودها تحت مظلة العقد الاجتماعي الذي يربط الجماعات بمؤسسات الدولة المركزية.
وفي هذه الدول يتصاعد الصراع المذهبي على السلطة وعلى المؤسسات، بما يؤدي الى تعطيلها وغيابها فتصبح حكراً على فئة دون أخرى، مثلما يحصل بالنسبة الى السلطتين التنفيذية والتشريعية في العراق وفي لبنان، ففي بغداد استقال 44 نائباً احتجاجاً على سياسة رئيس الوزراء نوري المالكي والهجوم على الأنبار لفك اعتصام زعامات سنية. وفي لبنان يتنازع فريقا الصراع الحكومة والصلاحيات على دور البرلمان، فيما المؤسسات في سورية مجيّرة بالكامل الى الجهة التي قامت انتفاضة الشعب السوري أصلاً ضد تسلّطها على المؤسسات كافة.
وفي كل هذه الدول يتداخل الصراع بين الفئات الاجتماعية المتنافسة مع الصراع الجاري مع الإرهاب وأصنافه المتعددة، تلك التي تنطلق من عقيدة دينية متطرفة، أو تلك التي تستخدمها أجهزة ودول لها باع طويل في هذه العملية ولها تاريخ موثق ومعروف.
وفي هذه الدول وصل «النزاع الجيوإستراتيجي الضخم (كما قال الشهيد شطح في تصريح له قبل يوم من اغتياله) بين إيران وخصومها السياسيين في المنطقة»، الى ذروة جديدة. وهو نزاع يكشف أن الدول الكبرى لم يعد لها التأثير الذي يتحكم بقرارات الدول الصغرى أو القوى الإقليمية، إما لأنها لم تعد تتمتع بالقوة التي تمتعت بها سابقاً، أو لأنها تترك للصراعات التي تقود الى تفكيك المنطقة، أو لأنها تنتظر الصفقة الكبرى التي تعمل طهران في انتظارها، على التمسك بأوراق نفوذها الإقليمي، عبر هجوم دفاعي عنها، بينما يسعى خصومها الى الاحتفاظ بأوراقهم من جهتهم، أو استعادتها.
وفي هذه الدول أيضاً تقوم الدول الكبرى باتفاقات ظرفية لمحاربة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، فتعقد الاتفاقات فوق الطاولة وتحتها بين الولايات المتحدة الأميركية ورجل النفوذ الإيراني في بغداد، نوري المالكي، لاستئصال «داعش» و «القاعدة»، وتتقاطع مصالح واشنطن مع مصالح النظام السوري وإيران.
لم تعد دولة من هذه الدول ساحة، بل ان هذه الدول كلها باتت ساحة واحدة لا حدود تحصنها، ولا فواصل بين أزماتها. وهذا بحد ذاته كاف لتبرير المخاوف من أن يصبح لبنان شبيهاً بها بالكامل فتضيع الحدود بين السياسة والأمن فيه أيضاً.