شحذت الجريمة الإرهابية الأخيرة التي ضربت حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، منطقاً «سياسياً» فقيراً في نقد الجرائم الإرهابية ونقضها.
هكذا علا صوت الممانعين القائلين إن أي «تفسير» لموجة الإرهاب هو تبرير لها، بل شماتة بضحاياها! هؤلاء، الذين طالما قالوا إن للإرهاب أسباباً، مشككين ببعض الكلام الأميركي الذي ينفي الأسباب عن الإرهاب، انحطوا إلى سوية النفي هذا. ذاك أن الإرهاب، وفقاً لهم، لا يمكن أن تكون له علاقة بسياسات «حزب الله» في سورية وفي لبنان. أما مجرمو التكفير فقرروا فجأة أن يُطلقوا على المدنيين الأبرياء الشر الذي في نفوسهم والذي ظل لعشرات السنين حبيس تلك النفوس لا يبارحها!
وهذا ضرب من الخرافة مثله مثل كل خرافة تسعى إلى الاستعاضة بالشر الأصلي عن أسبابه.
فهل كان لهذا الشر المؤكد أن ينفلت من عقاله لو أن «حزب الله» لم يشارك في الحرب السورية، ولم تساهم مشاركته في تسعير الغرائز المذهبية عند الجميع، ولو أنه لم يتفرد بحمل سلاح يُجمع كل اللبنانيين خارج بيئة الحزب على انتفاء مبرره، سلاحٍ يخافه كل اللبنانيين الذين لا ينتسبون إلى البيئة المذكورة؟
هنا، واحتراماً للدم الذي سال في حارة حريك، يجدر بنا الارتقاء إلى سوية الأسباب الأعم التي تهدد بجعل لبنان مسلخاً متنقلاً. ولا بد في المجال هذا من استعادة بديهيات تتضافر قوى كثيرة، على رأسها «حزب الله»، على نفي بديهيتها. فهذا بلد تعاقدي وهش النسيج، لا يقوم على مبدأ «الصراعات المصيرية» ولا على السلاح الذي تستدعيه تلك الصراعات، أكان ذلك في سورية أو في إسرائيل أو في أي مكان آخر. أما التترس بمبدأ «الصراعات المصيرية»، وتبرير التسلح والتدخل وفقاً له، فذاك أقصر الطرق إلى احتراب أهلي وطائفي مفتوح على الهمجية، كل طرف فيه يبادل الآخر السيارات المفخخة والانتحاريين.
فمن يبرر سلاحه بهذه القضية، سيجد في مقابله من يبرر سلاحه بتلك القضية. ولأن الآباء المؤسسين لهذا البلد، وعلى رغم شوائبهم كلها، أدركوا هذه الحقيقة البديهية، فإنهم حاولوا النأي بلبنان عن أن يكون «ممراً» و»مستقَراً»، بحيث تقف مشاركته في قضايا الجوار كما تقف خلافات أبنائه حولها، عند حدود التعاطف والتضامن والرأي والتعبير والموقف الإنساني والأخلاقي. غير هذا هو تفجير، بالمفرق أو بالجملة، للبنان نفسه، تفجيرٌ لا يعوضه أي انتصار لهذه القضية أو تلك، كائنةً ما كانت درجة نبلها وعدالتها في عرف حامليها.
والسؤال اليوم، وبعد كل ما حصل ويحصل هو: هل يريد اللبنانيون بلداً يتعايشون فيه، أم أنهم يريدون الاستغراق في قضايا تنهي تعايشهم، وقد تنهي عيشهم أيضاً؟
وهو سؤال، وإن كان يملك الآن حدة وخطورة غير مسبوقتين، سبق أن طُرح في النصف الثاني من الخمسينات، وفي النصف الثاني من الستينات وصولاً إلى الانفجار الكبير أواسط السبعينات. واليوم تتكاثر أعداد الذين بلغ بهم السأم الممزوج بالقهر والقرف، تبعاً لتواصل تلك المأساة، حد التفكير في أوطان بديلة والتوق إلى خرائط بديلة لا تخالطها تلك القضايا المغمسة دائماً بالدم. هؤلاء يتململ بعضهم قائلين: إذا كان من المستحيل استخلاص لبنان الكبير من وطأة هذه الكارثة المتمادية، فهل من سبيل إلى استخلاص لبنان الصغير من وطأة الخريطة؟
حازم صاغية/لبنان الكبير… لبنان الصغير؟!
16
المقالة السابقة