تتزايد الحاجة إلى تنوير الرأي العام فيما يخص المحطة النووية المزمع تشغيلها في عام 2021. و في كل مرة يصدر تصريح عن هيئة الطاقة النووية، يزداد الأمر غموضاً، وتزداد الحاجة إلى التفسير أكثر من ذي قبل. إن الجهود الرامية إلى توضيح الأمر للرأي العام، تستحق الثناء. ولكن متطلبات التنوير والإقناع تختلف عن مجرد التطمين والتهدئة وقبول الأمر الواقع. و نظراً لأن الموضوع له ملابسات علمية وتكنولوجية واقتصادية وبيئية معقدة، فإنه من الضروري أن يرافق الاجتماعات واللقاءات هذه بعض الخبراء والمتخصصين ذوي العلم بالتفاصيل. إذ لا يستطيع الأمين العام للحزب أو عضو مجلس الأمة أن يناقش تفاصيل علمية وتكنولوجية إذا لم يكن هناك من يسانده بالمعلومة والبدائل المتاحة. ذلك أن أسهل سبيل لتسويق أي مشروع خلافي ،يتمثل في اللجوء إلى التعميم والتبسيط و من المتوقع أن يقع هذا في الحملات المدرسية المزمع القيام بها،. وهنا نشير إلى النقاط الجوهرية التالية:
أولاً: تقول هيئة الطاقة النووية في آخر لقاء مع الأحزاب: أن استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء سيؤدي إلى الاستغناء جذرياً عن فاتورة الطاقة الضخمة والمتمثلة باستيراد حوالي 97% من احتياجات المملكة من الطاقة من الخارج. والحقيقة الهامة “أن الكهرباء تمثل ما يقرب فقط 40% من مجمل الطاقة”. وبالتالي لو تم توليد كامل الكهرباء من المحطة النووية ،وهذا عملياً غير ممكن و غير صحيح، فسوف يستمر الأردن في استيراد 58% من احتياجاته من الطاقة من الخارج لغايات النقل والصناعة والأغراض الأخرى إذا لم يطور مصادر محلية أخرى كالغاز والصخر الزيتي . و بما انه من المتوقع أن تساهم المحطة النووية بـ 20% إلى 30% من الطاقة الكهربائية، فالحقيقة أن” تخفيض الفاتورة سيكون فقط من (10%) إلى (15%) من مجمل الطاقة”. فهل هناك توازن مقبول بين المخاطر والفوائد ؟وبين التريث وبين التعجل؟ الأردن لن يستغني جذرياً عن استيراد ما يعادل 5000 مليون دينار سنوياً من النفط ومشتقاته عام 2021، وإنما سوف يستغني فقط عن استيراد 14% من الفاتورة النفطية أو ما يعادل (820) مليون دينار مقابل ثمن مرتفع في استثمار يصل إلى (9000) مليون دينار. فأين الحكمة في الاستثمار؟ وأين الحكمة في المخاطر والفرص الضائعة؟
ثانياً: تقول الهيئة أن كلفة الكيلو واط ساعة ستكون (7) قروش. والمواطن يسمع مرة رقم (7) قروش ومرة (9) ومرة (11). فعدا عن هذا التضارب ، فإن الأرقام التي تتداولها الهيئة تمثل” تقديراً أولياً لكلفة التوليد من المحطة النووية”. ولكن الكلفة النهائية ستتحدد أولا على ضوء متطلبات الإنشاء المباشرة وغير المباشرة ،و ثانيا على ضوء تغير الأسعار، و ثالثا تكاليف مفردات البنية التحتية . لكن “السعر الذي سيتعامل معه المستهلك هو سعر الكيلو واط ساعة من “خليط التوليد” وليس من المحطة النووية فقط”. وبافتراض (7) قروش للتوليد للنووي و (18) قرشاً للوقود الثقيل فإن سعر الكيلو واط ساعة من خليط التوليد سيكون (14) قرشا وهذا ما يهم المستهلك. وفي فرنسا التي تولد (72%) من طاقتها الكهربائية من محطات نووية فإن سعر الكيلو واط ساعة يتعدى(18) قرشا.
ثالثاً:. تتحدث الهيئة عن 3 أو 4 مشاريع مختلفة، في آن واحد هي: تعدين اليورانيوم، والمفاعل البحثي، والمحطة النووية، إضافة إلى مشروع لم يفهمه أحد، وهو” إنشاء مجموعة من المفاعلات في مواقع مختلفة بقدرة (180) ميغاواط” وهذه الخلطة في المشاريع غير المترابطة لم يأخذها بلد في العالم في آن واحد. فإسرائيل فيها مفاعل بحثي في ديمونة منذ عام 1958، وليس لديها محطة نووية. واستراليا تنتج 6000 طن من اليورانيوم ولديها احتياطي (31%) من احتياطي العالم ،وليس لديها محطة نووية. والولايات المتحدة لديها أكبر عدد من المحطات النووية (17) محطة، ولا تنتج أكثر من (1500) طن سنويا، وفرنسا تنتج 72% من كهربائها من المفاعلات النووية، وهي الأعلى في العالم، ومع هذا فاستهلاكها من النفط في حدود (400) مليون برميل سنوياً و اكتفاؤها الذاتي من مصادر الطاقة لا يتعدى 50% رغم ما لديها من غاز و فحم ومصادر أخرى . وبالتالي فإن هذا الخلط في المشاريع ليس له ما يبرره ، وغير ممكن عمليا واقتصاديا، كما تدل تجارب الدول وخاصة في بدايات أعمالها. و قد يكون “الهدف من الخلط تضخيم العملية حتى تبدو غير مكلفة على الاقتصاد الوطني” . أما مجموعة المفاعلات الصغيرة، و كأنها محطات ديزل، فليس لها تفسير.
رابعا: إذا كانت المحطة بحاجة إلى (50) مليون متراً مكعبا من مياه التبريد سوف تؤخذ من مياه الخربة السمراء بعد تنقيتها، وتحرم منها الزراعة، فإن السؤال الذي لا يجيب عليه أحد، وتحاول هيئة الطاقة النووية تجاهله،هو: ما هي كميات المياه التي تحتاجها المحطة في حالة الكارثة النووية ؟ ومن أين ستأتي بهذه المياه؟ هذا سؤال جوهري و مصيري. العالم يجيب عليه بوضع المحطة على نهر أو بحر أو بحيرة.. وليس في الصحراء. أما القول بأن المحطة لا تحتاج إلى مياه في حالة الكارثة النووية فلا أحد في العالم يضع مصير بلد بأكمله على هذا القول.
خامسا إن القول بان كلفة تعدين اليورانيوم ستكون منخفضة فيه الكثير من المبالغة بل التبسيط. فلا تعرف الكلفة إلا بعد مباشرة التعدين الفعلي بكل متطلباته العلمية والتكنولوجية والبنية التحتية، واحتياجات المياه التي لم يحدد مصدرها حتى الآن بل لا يعرف أحد أين سيبدأ التعدين. إن شركة أريفا التي انسحبت من المشروع تنتج (15%) من يورانيوم العالم. فهل تركت المشروع دون سبب؟
وأخيراً.. فإن هيئة الطاقة تسعى إلى تنفيذ المشروع بأسرع ما يمكن بغض النظر عن جدوى البدائل الأخرى، و عن التطورات التكنولوجية والاقتصادية السريعة لصالح هذه البدائل. ولكن المسؤولية الوطنية تقتضي وضع ضوابط صارمة للدراسات والتقييم ومتطلبات التنفيذ، لأن الخطأ في محطة نووية يعني كارثة إنسانية واقتصادية هائلة. وهذه الضوابط هي (1) أن تشكل الحكومة فريقاً علمياً وطنياً محايداً مستقلا يعمل كمستشار للحكومة . فلا يعقل أن تعتمد الحكومة على ما تقدمه الهيئة فقط وهي صاحبة مصلحة في التنفيذ (2) أن يشكل مجلس الأمة لجنة علمية استشارية ثانية توضح الكثير من الجوانب العلمية والتكنولوجية والبيئية اللوجستية والاقتصادية التي قد لا ينتبه إليها أعضاء المجلس بسبب عدم الاختصاص (3) أن تجيب هيئة الطاقة النووية عن الأسئلة الغامضة بكل وضوح وبموجب وثائق يطلع عليها الرأي العام (4) أن تضع الهيئة، بطلب من الحكومة أو مجلس النواب، وثيقة خاصة هي “وثيقة الحوادث المحتملة”. تبين فيها كيفية التعامل مع الحوادث ماليا و قانونيا و لوجيستيا و مائيا و بيئيا و طبيا و إخلائيا الخ على ضوء التجارب العالمية في هذا الاتجاه. (5) أن تضع الهيئة وثيقة الجدوى الاقتصادية والفنية على ضوء البدائل المتاحة والتطورات التكنولوجية والاقتصادية فيها خلال أل 40 سنة القادمة. (6) أن تعرض الاتفاقيات على مجلس الأمة أولاً بأول للحصول على الموافقة.
و بعد، فلا يوجد مواطن واحد في هذا البلد، لا يتمنى أن يرى الأردن في أعلى مستوى. ولكن المسؤولية الوطنية والعلمية تقتضي التروي والانتقال من مرحلة إلى أخرى بعقلانية وواقعية.. ألمحطة النووية ليست سحراً، ولا عصا موسى ،كما أن فكرة تصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة كما تفعل فرنسا هو مشروع سابق جداً لأوانه سياسياً واستراتيجيا واجتماعياً واقتصاديــاً ووطنيا و إقليميا.
ومرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة نقول: أنفقوا (3) مليارات لإنشاء شبكة سكة حديد ونقل عام ،ومليار واحد على تنمية المحافظات وتطويرها وتصنيعها، ومليار واحد على بدائل الطاقة الأخرى الصخر الزيتي والشمسية والرياح، و مليار واحد على تحلية المياه بالطاقة الشمسية وهذه كلها تقع ضمن الإمكانات الأردنية وانظروا إلى مستقبل الأردن، كيف سيزدهر دون مخاطرات صحية وبيئية وسياسية واقتصادية.