أعتقد صادقا بأن أخطر سؤال مطروح اليوم على دول ما بعد الثورات العربية وما يعرف بالربيع العربي هو السؤال الذي لم يطرحه أحد من الخبراء أو المسؤولين الجدد العرب إلى اليوم والسبب أننا ضعنا بلا بوصلة في خضم الأحداث الجليلة المتعاقبة والمؤامرات المختلفة التي تحاك ضد كل تغيير حضاري. هذا السؤال هو ما موقفنا بعد الهزات التي عاشتها مجتمعاتنا من النظام الاقتصادي والمالي العالمي الراهن والذي أصيب في مقتل منذ انهارت سنة 2007 مصارف ومؤسسات مالية أمريكية أعقبتها إعلانات إفلاس لدول كاملة كما حدث لليونان ثم أعيد النظر في أركان ذلك النظام العالمي الجائر المنعوت بـ (بريتن وودس) وراجعت دول الغرب علاقاتها مع دول الجنوب ونحن منها واتضح لبعض الحكومات وأولها العربية السعودية ودول مجلس التعاون بعد اتفاق إيران مع (الخمسة زائد واحد) بأن واشنطن لا تعبأ بمصالح حلفائها العرب ومن ثم وجب التفكير والتخطيط لانطلاق العرب من هذه الحقائق لإعادة النظر في علاقاتنا جميعا لا بالولايات المتحدة فحسب بل بالنظام العالمي الراهن بأسره.
غريب كيف بفضل الصبر والإصرار على الحق واستشراف ذكي للمستقبل يبلغ المرء مبتغاه بتحقيق أمل كان بالأمس القريب يعتبر حلما صعب المنال حين يعطيه الزمن الحق فيما استقرأه أو أنذر منه من كوارث ستحل بالعلاقات الدولية وتغير حال العالم. فيدرك الإنسان بأن الطريق الصحيح هو طريق المعرفة والإيمان أي السير في اتجاه التاريخ حتى ولو كانت الأغلبية ضده.
هذا بصراحة وبدون غرور شعوري هذه الأيام حين أشهد بداية انهيار الرأسمالية الغربية المتغولة التي طالما أدانتها وأدانها معي مثقفون عرب وعجم آخرون من على هذا المنبر الإعلامي على مدى سنوات، لأنني بكل بساطة أعتقد ما يعتقده صديقي عالم الاقتصاد الأمريكي ليندن لاروش منذ نصف قرن، من أن العالم لن يتحمل أوزار الظلم الدولي المسلط على أمم الأرض من قبل الأقلية المستفيدة من نظام (بريتن وودس) المنتهي الصلاحية منذ استقرار العولمة وصعود القوى الجديدة. وسجلت هذه المواقف المتواضعة في المطارحات الفكرية بيني وبين الصديقين لاروش الأمريكي وجاك شوميناد المرشح الأسبق لرئاسة جمهورية فرنسا، بعد أن اشتركنا معا في عشرات المؤتمرات والندوات الدولية في عواصم العالم بدءا من مؤتمر واشنطن بفندق ماريوت عام 1984 وانتهاء بندوة كدريتش بألمانيا في أكتوبر 2007 ثم إننا التقينا عديد المرات في بيت لاروش بألمانيا في ضواحي (فيزبادن) ونشرت أحاديثي معه على هذه الصحيفة الغراء.
إنني اكتشفت منذ ثلث قرن بأن أول من أنذر الغرب بقرب انهيار النظام النقدي العالمي (بريتن وودس) المؤسس على المضاربات هو عالم الاقتصاد الأمريكي ليندن لاروش الذي عمل مستشارا للرئيس ريغن لأنه هو العدو التاريخي لليبرالية المتوحشة القائمة على المضاربات، وأن الاتحاد الأوروبي الحليف الطبيعي للولايات المتحدة هو ذاته دعا إلى إعادة النظر جذريا في منظومة (بريتن وودس) الجائرة وإقرار نظام ليبرالي عالمي يخضع للأخلاق وتحكمه ضوابط الرقابة والمحاسبة ويعمل في كنف مصالح كل الأمم ولا يسخر حصريا لتكريس هيمنة الغرب بالقوة على مقدرات الشعوب الأخرى مناديا بالانضمام إلى صف التأسيس الاستعجالي لنظام عالمي جديد تماما ونحن كعرب لم نعالج هذا الملف الأساسي ونحن معنيون في مصيرنا بطبيعة الانخراط في النظام العالمي أو التعامل معه وعلى أي أساس؟ وحين نقرأ مواقف المستشارة ميركل مثلا من آليات التضامن المالي الأوروبي ورفضها تمويل المفلسين من أعضاء الإتحاد الأوروبي (راجعوا خطابها الأخير منذ أسبوع في حفل إعادة انتخابها من جديد مستشارة لألمانيا) نتبين بأن مقترحاتها مجرد ترقيع حكومي رسمي ألماني محض للنظام المالي والاقتصادي القائم على ضخ مبالغ خيالية في شرايين المصارف وشركات التأمين والاستثمار المهددة بالإفلاس ولم نشاهد بعد عملا حاسما وملزما للدول أو خطة دولية يدعى لسنها قادة العالم بأسرهم بمن فيهم زعماء الصين والهند والبرازيل وروسيا واليابان ونمور آسيا ونأمل أن تنخرط في هذا العمل الكبير دول مجلس التعاون لأنها تشكل مركز ثقل مالي واقتصادي وحضاري وتعتبر قلب الإسلام النابض.
ستدعى الدول قريبا لهبة حضارية جديدة وإعلان موت الليبرالية الطاغية ونواميس السوق المتسيبة مما لا شك سينشأ عنه نمط جديد تماما للعلاقات الدولية والقانون الدولي والأخلاق الدبلوماسية والتجارة العالمية، بعيدا جدا عن الهيمنة السياسية والسيطرة على مناطق النفوذ وتقاسم خيرات الأمم الأخرى تحت تعلات العولمة وبمباركة المؤسسات الدولية التي تدير هذه المظالم وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وهي الأدوات الطيعة والأذرع الطويلة لنظام (بريتن وودس) المنهار على رؤوسنا جميعا.
ولا يحسبن القراء العرب أن هذا الذي يحدث يمس فقط قواعد الأسواق المالية في الغرب! بل يتجاوز ذلك بكثير لأن حكماء الغرب بدأوا يعيدون النظر بقوة في الانحلال الأخلاقي والسقوط الثقافي وظاهرة فقدان القيم الروحية التي تعاني منها المجتمعات الغربية. وأنا مازلت أعجب من بعض نخبتنا المسلمة التي تعتقد بأن قدر دولنا هو أن نظل أذيالا للغرب نخضع عاجزين لمنظومة مصالحه ونتبنى صاغرين خياراته ولا مفر لنا من الإذعان لا لإملاءاته فحسب بل لثقافته ولغته وسائر شؤون مجتمعاته من منطق الأمم المغلوبة مسلوبة الإرادة طيعة الانقياد للأمم الغالبة. إننا بفضل التحولات المباركة التي عشناها وسبق أن أنضجناها أحوج ما نكون ليقظة الضمائر ونهضة العقول وعودة الوعي بهويتنا وهي الحامية لمصيرنا من كبوة جديدة من كبوات التاريخ فكل مكاسب الحرية والسيادة واستقلال القرار ستظل مهددة من دون تلك الصحوة الحضارية.