يُلاحظ، منذ فترة لم تعد قصيرة، أنّ ثمّة تسويقاً واسعاً لما يتعرّض له المسيحيّون في سوريّة، على أيدي أطراف محسوبة، في صورة أو أخرى، على الثورة السوريّة. ولا يخلو التسويق هذا من التذكير بما حلّ بالمسيحيّين في العراق، أو بتراجع وزنهم وحجمهم في لبنان.
لكنّ الأدوات السياسيّة والإعلاميّة التي تتولّى الخلط والترويج هذين، وترفع وتيرة المشاعر والغرائز الطائفيّة، يفتقر الكثير منها إلى كلّ حساسيّة حيال المسيحيّين أو الأقليّات الأخرى، فضلاً عن أنّ الكثير منها ضالع في الأعمال التي انتهت بالأقلّيات الدينيّة والإثنيّة إلى ما تعانيه راهناً. يكفي استرجاع السخرية، إن لم يكن العداء المسلّح، لفكرة لبنان كوطن للأقليّات وكضمانة لها.
مع هذا، هناك مشكلة أقليّات جدّيّة، ومشكلة جدّيّة تتّصل بالمسيحيّين ووضعهم الراهن في سوريّة والمنطقة. وهذا ما لا ينفيه القول إنّ الأكثريّة السنّيّة تعاني أيضاً، بل إنّها تعاني أكثر ممّا تعانيه الأقلّيّات. ونعرف أنّ تلك الحجّة القديمة التي استُخدمت للتخفيف من حجم المحرقة اليهوديّة، والقائلة إنّ عشرات الملايين من غير اليهود قد قُتلوا أيضاً، صارت حجّة على أصحابها اللاساميّين. ذاك أنّ الذين يُقتلون بسبب دينهم أو إثنيّتهم ليسوا كمن يُقتلون في المعارك أو من جرّاء اضطهاد سياسيّ أو إيديولوجيّ يُنزله بهم نظام غاشم.
يضاعف حجم مسألة الأقلّيّات صعود التكفيريّين الحاليّ والمتفاقم. فإذا صحّ أنّ «النصرة» و «داعش» وأضرابهما تشكّل خطراً محدقاً على مسلمين سنّة لا يُحصى لهم عدد، صحّ أيضاً أنّها، كحركات هويّة، خطر مباشر على الأقليّات لمجرّد انتمائها الدينيّ والمذهبيّ.
لكنّ ما يُسبغ بعض التعقيد على هذه المسألة أنّ النظام الطائفيّ في سوريّة، والذي يستهدف مناطق ذات لون سنّيّ، إنّما يجيز القول بأنّ السنّة باتوا، هم أيضاً، يُستهدفون لأنّهم سنّة.
ووضع كهذا، ومن دون أن يخفّف من حجم المعاناة التي تنزل بالأقليّات، يحضّ هذه الأخيرة، من خلال ممثّليها السياسيّين والدينيّين، على اعتماد سياسات أكثر مسؤوليّة حيال حريّة مواطنيهم وحيال الألم الذي يتكبّدونه سعياً منهم إلى هذه الحرّيّة. فكلّ موقف نقديّ حيال النظام السوريّ هو اليوم تصليب للموقف السياسيّ والأخلاقيّ المناهض لـ «النصرة» و «داعش» وأضرابهما. ولا يستطيع، بالتالي، من يتّخذ موقفاً داعماً لنظام يكاد يقتل على الهويّة أن يواجه تنظيمات دأبها القتل على الهويّة.
ولئن استحقّ التحيّةَ سمير جعجع، قائد «القوّات اللبنانيّة»، على موقفه الأخير من مسألة المسيحيّين، وعلى ربطها بعموم ما يحيق بالسوريّين من مآسٍ، فإنّ ما يقلق، في المقابل، ميل البعض الأكثر والأكبر إلى مواقف معاكسة تماماً: مواقف تربط مشكلة المسيحيّين السوريّين بالطريقة التي يقدّم فيها ميشال عون مشكلة مسيحيّي لبنان، ومن ثمّ الإمعان في زجّهم في مواجهة السنّة وقوداً لـ «تحالف الأقليّات»، وتجييرهم، من ثمّ، للنظام السوريّ ولـ «حزب الله». فهل تكمن هنا، في هذا الاستخدام القاتل، مصالح المسيحيّين السوريّين منهم واللبنانيّين؟
حازم صاغية/المسيحيّون والثورة السوريّة
17
المقالة السابقة