ما أن انتهى تأثير منخفض أليكسا على الشرق الأوسط, حتى جاء منخفض آخر أشد برودة وتأثيراً هو منخفض يالو. الحصيلة كانت هطول الثلج في بلدان عديدة (منها مصر التي تهطل فيها الثلوج لأول مرة منذ حوالي المئة وخمسين عاماً) منها الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان. في قطاع غزة فاضت المياه وأغرقت الشوارع حيث أصبحت مدينة غزة وكأنها مدينة البندقية في ايطاليا, يتنقل الناس بين البيوت بواسطة القوارب. البرد الشديد والثلوج الكثيفة اجتاحت القطاع وسط ظروف صعبة: انقطاع الكهرباء وعدم وجود الجاز والسولار للتدفئة. هذا ما رأيناه على شاشات الفضائيات, هذه التي تأتي بشكل نادر نظرا لتراكم الثلوج على الصحون ولواقط الاستقبال, فهما بحاجة دوما الى ازاحة الثلوج عنهما. كانت محزنة أيضا ظروف اخوتنا اللاجئين السوريين الذين يسكنون خيما في مخيمات الأردن ولبنان وبعض المناطق السورية.
مما لا شك فيه أنه مؤخرا اختلفت حالة الطقس في العالم, نتيجة لتدخل الإنسان في البيئة, فالتجارب النووية والحروب وتداعياتها والتلوث البيئي وغيرها من العوامل, كل هذه ستترك آثارها المباشرة على الأجواء في مناطق كثيرة من العالم. لقد كشفت الثلوج الأخيرة أن غالبية دولنا العربية ليست مستعدة لاستقبال الثلوج, فعلى سبيل المثال وليس الحصر: ارتفعت الثلوج في العاصمة الأردنية عمّان الى ما يقارب المتر, واستمرت الحالة عدة أيام. الجرافات لم تفتح سوى الطرق الرئيسية, أما الطرق غير الرئيسية فبقي الثلج فيها على حاله، يتراكم ويتراكم الأمر الذي يعني سجن الناس في البيوت طيلة أيام وجود الثلج. من ناحية ثانية: فإن استعداد الناس لم يكن كما يجب نظراً لغلاء أسعار السولار والجاز إلى مستويات عالية، الأمر عنى عدم تشغيل التدفئة المركزية لدى معظم الناس والاكتفاء بمدافئ الغاز أو الكاز الصغيرة، وهذه لا تدفئ إلا حولها.على صعيد احتياجات الناس فطول مدة الثلج هذه المرة، جعلت الكثيرين من الناس يخرجون لشراء لوازمهم واحتياجاتهم إلا أن المحلات والعديد من المخابز مغلقة أيضاً, وهو ما أجبر العديدين على تدبير أنفسهم في البيوت بما هو متوافر لديهم.
ماذا يعني ذلك؟ أولاً لو طالت مدة تراكم الثلج, فإن الناس سوف يفتقدون الإمكانية في تدبير أمورهم بسبب فقدان العديد من السلع حتى الغذائية منها، وهذا ما يؤشر إلى سوء التخطيط والاحتراز على مستوى الدول للظروف الجوية الصعبة.ثانياً: صحيح أن هناك أرقام هواتف للطوارئ لكن احتياجات الناس الطارئة كإسعاف مريض مثلا أو محاصرة الثلج لبعض الناس هي أكبر بكثير من الاستعدادات التي تجريها الدول, فالشوارع مليئة بالثلوج وإن تحرك الإنسان بسيارته فغالباً ما تتوقف بعد أمتار قليلة, بدليل أن الشوارع في عمّان مليئة بالسيارات المعطلة. ولا نعتقد أن إنساناً يخرج في هذه الظروف الصعبة إلا إذا كان مضطراً للخروج تحت دواعي واحتياجات مهمة.أيضاً فإن أسطوانات الغاز للتدفئة لا يمكن استبدالها في الأجواء الثلجية. هذه الحالات متواجدة في كل الدول المتأثرة بتساقط الثلوج فيها!.
كاتب هذه السطور بقي اثني عشر عاماً في الأجواء الروسية. في موسكو وغيرها من المناطق والمدن. وفي غالبية الجمهوريات التي كانت منضوية تحت علم الاتحاد السوفياتي, فإن الثلج يستمر ما يقارب الثمانية شهور في كل عام, غير أن الحياة لا تتعطل هناك ولا ليومٍ واحد. فالاستعدادات كبيرة وتطال كل الزوايا مهما كان اتساع المدينة. يتساقط الثلج في الوقت الذي تنتشر فيه السيارات المؤهلة لإزاحة الثلوج من الشوارع, وراءها سيارات خاصة برش الملح والأخرى بنثر التراب في الشوارع, من أجل تجنيب حوادث ازلاق السيارات. كل المحلات تفتح أبوابها ويستمر مدّها بالسلع كذلك هي المخابز والمراكز العلاجية وكل المحلات الأخرى الضروية.
نذكر أنه في ديسمبر من العام 1979 وصلت درجة الحرارة في موسكو إلى 60 درجة مئوية تحت الصفر( أي أنها أصبحت مثل سيبريا تماماً) وكانت هذه الحالة النادرة تأتي مرّة كل خمسة أو ستة عقود، الأمر الذي أدّى إلى تجميد السكارى في الشوارع وموتهم، وإلى انفجار المواسير التي تحوي المياه الساخنة للتدفئة، في أماكن عديدة من المدينة. استمرت هذه الحالة حوالي الأسبوعين لم تتأثر الحياة في المدينة مطلقاُ, إضافة إلى أن الخلل يجري إصلاحه دون انتظار. بالطبع مثل هذه البلاد مهيأة نظراً لطول فترة هطول الثلوج فيها، بينما بلداننا في العالم النامي ليست مهيأة نظراً لندرة تساقط الثلوج فيها،غير أنه لابد من توافر المزيد من الاستعدادات اللوجستية لمثل هذه الظروف الطارئة.
على صعيد قضاء الوقت من قبل الناس في بيوتهم: في مثل هذه الأجواء فيمكن اختصارها بكلمتين: الأكل والنوم وهكذا دواليك! لا صحف,لا تليفزيونات, لا خروج ,الأمر الذي يدعو بالطبع إلى الملل واللجوء إلى الأنترنت هذا إن لم ينقطع هو أيضاً. غير أن هذه الأجواء لابد وأن تحمل بعض السمات الدافئة مثل الانغماس في القراءة لساعات طويلة, أو الكتابة بالنسبة للكتّاب, فبالنسبة لكاتب هذه السطور فقد كتبت هذه المقالة للأحبّاء قراء”الوطن” في مثل هذه الأجواء وبوحي مباشر منها, لذا جاءت تعكس حقيقة ما أمرّ ونمر فيه من ظروف. كما تمكنت من تنقيح روايةً أنجرتها بعد أن جرى صفّها وطبعها على الورق. كما تمكنت من إنجاز كتابة مقالات أخرى وإنجاز قراءة العديد من الأبحاث. وكل ثلجة وأنتم بخير.
د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني