كان سهلاً على الذين وضعوا أيديهم على قلوبهم ليل الأحد – الإثنين الماضي، بعد أن قتل جندي لبناني أحد عناصر دورية إسرائيلية تخطت أو حاولت أن تتخطى الحدود الى الأراضي اللبنانية، خوفاً من رد فعل إسرائيلي، أن يطمئنوا بعد ساعات قليلة، الى أن تل أبيب ستتبع سلوك ضبط النفس ولن تواجه الحادث برد عسكري أكثر مما فعلته قواتها فور وقوع الحادث من إطلاق نار عشوائي على المنطقة المحيطة بالموقع الذي أطلق منه الجندي اللبناني الرصاص وأردى الجندي الإسرائيلي.
والمعلومات أفادت، من إسرائيل نفسها، بأن قيادة جيشها لا تريد تصعيداً، وكذلك القيادة السياسية. وكان المخرج إعلان الجيش اللبناني أن الحادث وقع نتيجة «تصرف فردي» من الجندي اللبناني، وتأكيد قوات الأمم المتحدة الموقتة في جنوب لبنان التعاطي مع الحادث على أنه «معزول»، بعد اجتماع عسكري ثلاثي، دولي – لبناني – إسرائيلي في مقر قيادة هذه القوات، في اليوم التالي.
اللافت في ما أحاط بهذا الحادث أن «حزب الله» تصرف خلافاً للعادة بطريقة تجاهل فيها الحادث، على رغم بعض الاستنفار البعيد من الأضواء الذي نفذه عناصره قرب الحدود، وركّز اهتمامه على الهجومين اللذين تعرض لهما الجيش اللبناني في صيدا من قبل مجموعتين انتحاريتين وعلى دور المجموعات التكفيرية التي يقول إنه يخوض مواجهة معها في سورية ولبنان. وهو تركيز ينسجم مع ميل الحزب منذ مدة الى تجاهل إسرائيل، في التعبئة الإعلامية والسياسية التي يعتمدها لجمهوره ولتبرير سياساته، إلا حين يربط قادته لأغراض هذه التعبئة، بين التكفيريين وبين إسرائيل وبعض الدول العربية الخليجية.
إلا أن مناسبة الحديث عن التعامل بهدوء وضبط النفس، من جانبي إسرائيل (خصوصاً) و «حزب الله» في الجنوب، هي المناخ الإقليمي الدولي الجديد في العلاقة الإيرانية – الغربية، التي لا بد من أن تنعكس على السلوك الإسرائيلي. ومع أن تل أبيب دأبت منذ عام 2006، هي و «حزب الله» والسلطات اللبنانية على احتواء أي حادث على الحدود، فإن جديد المناخ الدولي – الإقليمي منذ الاتفاق المرحلي بين إيران ودول 5+1 على البرنامج النووي الإيراني، في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي والانفتاح الأميركي – الإيراني قبله، باتا يفرضان حذراً أكبر من الأطراف الثلاثة. وإذا صح ما نشرته مجلة «نيوزويك» في 25 تشرين الثاني الماضي، عن لقاء عقد في منطقة «معزولة»، في فرنسا، بين ضباط سابقين في الحرس الثوري الإيراني والجيش الإسرائيلي بترتيب من مسؤولين صينيين وفي حضور مسؤولين سابقين من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وأستراليا، الى مائدة العشاء في أحد القصور القديمة، تخلله حوار من أجل تدوير الزوايا في شأن محادثات الملف النووي التي توصلت الى الاتفاق المرحلي، لاحقاً في جنيف، فإن جديد المناخ الإقليمي والدولي هو التواصل غير المباشر عبر ما تسميه اللغة الديبلوماسية، «القنوات الخلفية»، بين الجانبين الإسرائيلي والإيراني، برعاية دولية.
وفي حين تقول «نيوزويك» أن أحد الضباط الإسرائيليين السابقين (دورون أفيتال) المشاركين في اللقاء اعتبر أن «إيران تستدير نحو الغرب» بفعل توجهات قيادتها الجديدة، فإن منطق «القنوات الخلفية» الديبلوماسي، يحتمل تواصلاً غير مباشر بين الدولتين، بالتزامن مع «الضجيج» الرسمي الذي مارسه ويمارسه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، حيال انفتاح حليفته الأولى واشنطن في اتجاه طهران، وحيال اتفاق جنيف المرحلي. إنه ضجيج غرضه رفع السقف أمام توجه لا قدرة للدولة العبرية على معاكسته في سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما التقاط فرصة انتخاب الرئيس حسن روحاني الساعي لمعالجة مشكلات طهران مع الغرب، ولإخراج بلاده من أزمتها الاقتصادية الناجمة عن عقوبات الدول الكبرى. وهو ضجيج رمى الى الحصول على تطمينات من أوباما، وإلى أن يشمل التفاهم مع طهران، تفاهماً بينها وبين تل أبيب، يضمن أمنها. واللقاء الذي تحدثت عنه «نيوزويك» ربما كان فاتحة اتصالات في هذا الاتجاه لا بد من أن يحصل غيرها (إذا لم تكن حصلت).
وفي كل الأحوال، فإن واشنطن، وهي تعيد تموضعها على الصعيد الدولي وتمارس سياسة انكفاء في المنطقة، لا بد من أن تسعى بموازاة ذلك الى ترتيب مواقع حلفائها، وإسرائيل في الطليعة، لأنها ما زالت ملتزمة أمنها وبالتالي لا بد من أن تدفع الى تفاهم إيراني – إسرائيلي لضمان هذا الأمن.
إنه إذاً، مناخ ترتيب الأوراق الإقليمية الذي يفرض حسابات استراتيجية مختلفة، عند إسرائيل، وإيران وحلفائها، لا سيما في لبنان. وإلى أن ينتقل البحث فيها من القنوات الخلفية الى القنوات العلنية، وهو مسار سيأخذ وقتاً لأسباب داخلية في كل من الدول المعنية، سيتعاطى قادة هذه الدول مع بعض الحوادث الناجمة عن حال الخصومة، على أنها «حوادث سير»، لا تلغي التوجه نحو التفاهمات التي تفرضها المعادلات الجديدة. هكذا يمكن أن يقتل جندي إسرائيلي، ويمكن أن يتم اغتيال القيادي في «حزب الله» حسان اللقيس، ويُحتمل أن تضيف الإدارة الأميركية عقوبات جديدة على مؤسسات إيرانية، من دون أن يسبب كل ذلك مواجهة أو عودة الى الوراء… وقد يكون الإبقاء على سورية مشتعلة، وسيلة لتبرير كل ما يحصل.