ضربت عاصفة جون كيري السياسية المنطقة في اللحظة التي وطأت قدماه الأراضي الفلسطينية المحتلة بعيد إطلاقه نصه السياسي المقدم للجانب الفلسطيني بعد أن قام وفريقه بطبخه وإعداده مع الطرف “الإسرائيلي” تحت عنوان صيغة الحل الانتقالي والترتيبات الأمنية، وهي محاولة جديدة للوصول إلى اتفاق فلسطيني ـ “إسرائيلي” يفتح الطريق أمام تطويب الحلول السياسية النهائية تحت القالب “الإسرائيلي” والرؤية التي تراها حكومة نتنياهو للحل مع الطرف الفلسطيني وذلك بالنسبة للعناوين والقضايا ذات البعد الاستراتيجي في مسار عملية المفاوضات المختلة والمأزومة أصلاً بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” والغارقة في الأوحال منذ عدة سنوات.
عاصفة جون كيري السياسية حملت أمرين إثنين في زيارته الأخيرة للمنطقة وهي الزيارة الثامنة له منذ أن بدأت العملية التفاوضية إقلاعها الجديد منتصف الصيف الماضي 2013، أولهما وثيقة الحل الانتقالي والترتيبات الأمنية التي باتت متداولة ومعلنة بعناوينها الرئيسية. وثانيهما وثيقة أمنية سرية للترتيبات الأمنية ما بعد الوصول للحلول الانتقالية، وهي وثيقة تتكامل مع الوثيقة الأولى وتتناغم معها بصورة تامة، وفيها التصور الأميركي الكامل لمسار الحلول للتسوية النهائية بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي”، وهي في حقيقتها ليست سوى تلخيص للسياسات والمواقف الأميركية التي جرى إعادة إنتاجها هذه المرة بقالب جديد.
في الأمر الأول، اتضحت معالم الحلول “الانتقالية” الأميركية بتصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما في منتدى (سابان) قبل فترة قصيرة من الزمن، حيث قال “إن هناك تقدمًا بالمفاوضات يمكن أن يسمح بالتوصل إلى اتفاق إطار على طريق التسوية النهائية على مراحل”، مضيفاً أن الحل “يمكن أن يبدأ في الضفة الغربية ويتم تأجيله في قطاع غزة، وعندما يرى أبناء القطاع الازدهار الناشء في الضفة الغربية سيثورون لكي يلتحقوا به”.
وعليه إن الوثيقة الأميركية للترتيبات الأمنية والحل الانتقالي جاءت في سياقات الجهود الأميركية على أعلى مستوياتها، وهي في حقيقتها وثيقة إملاءات من الطرف القوي على الطرف الفلسطيني المستضعف، وتتضمن تجاوباً كاملاً مع المطالب “الإسرائيلية” وإهمالاً للمطالب الوطنية المحقة للشعب العربي الفلسطيني. فالوثيقة على سبيل المثال تدعو للاعتراف العربي والفلسطيني بيهودية الدولة وتجيز تبادل الأراضي وتشرع وجود المستعمرات في المناطق المحتلة عام 1967 وتخرجها من دائرة الحديث عن ضرورة تفكيكها وإزالتها كمن نصت قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، كما تدعو لاعتبار البلدة القديمة من مدينة القدس بجدودها المنصوص عليها في تفاهمات سابقة كانت قد حملت مسمى تفاهمات (محمود عباس ـــ يوسي بيلين عام 1997) منطقة دولية، وامتداد مناطق السلطة الفلسطينية إلى مناطق (B) و(C)، مع تبادل للأراضي المتفق عليها على جانبي الجدار العازل الذي يشكل الحدود الدائمة ما بين الدولتين.
وفيما يتعلق بموضوع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة إلى أرض وطنهم التاريخي، فالأمر مستبعد عمليًّا ومُطاح به بالكامل ولايتعدى الحديث عنه سوى حديث فضفاض وعام ويبتعد عن المرجعية الدولية، ويتم التحدث بشأنه عن منح اللاجئين الفلسطينيين حق التعويض والهجرة فقط (لاحظوا عبارة التعويض والهجرة وهذا ما يفسر الأبواب المفتوحة أمام تهجير مجموعات كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين من بعض دول الطوق العربية التي يقيمون فيها).
أما في الأمر الثاني، وهو أمرُ الوثيقة الأمنية السرية، فقد حملت عاصفة جون كيري السياسية والتي ترافقت مع عاصفة (أليكسا) التي هبت على بلاد الشام بأسرها، وثيقة أمنية سرية تسربت الكثير من المعلومات بشأنها مساء اليوم الثالث عشر من ديسمبر الجاري 2013، أي في اليوم الذي كان فيه جون كيري موجوداً بين تل أبيب ورام الله. وهي وثيقة كان وضعها الجنرال الأميركي جون ألين بالتشاور مع الطرف “الإسرائيلي” دون الطرف الفلسطيني، فيما قدمها جون كيري في زيارته وعاصفته الأخيرة بشكل رسمي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تل أبيب ومحمود عباس في رام الله.
فالوثيقة الأمنية السرية تدعو لنشر قوة دولية إقليمية، بما فيها القوات الأميركية، على طول وادي نهر الأردن (غور الأردن) والضفة الغربية في الدولة الفلسطينية المستقبلية التي لن تقوم سوى على ما مساحته نحو (84%) من مساحة الضفة الغربية البالغة نحو (5888) كيلومترا مربعا إضافة لقطاع غزة البالغة مساحته نحو (360) كيلومترا مربعا.
فيما تقول الوثيقة بأن الإجراءات الأمنية التي وعدت بها واشنطن الدولة العبرية الصهيونية تندرج، ضمن مخطط أميركي إقليمي أوسع، لا تزال إدارة الرئيس باراك أوباما تعمل على تطويره لتشكيل حضور إقليمي جديد في الشرق الأوسط يضمن ما تسميه توفير الحماية الأمنية لـ “إسرائيل” ضد أي هجوم يستهدفها. وتقترح الوثيقة إياها دمج وحدات القوات الخاصة “الإسرائيلية” والفلسطينية في مخطط القوة الإقليمية لمكافحة الإرهاب، جنباً إلى جنب مع نشر وحدات أميركية وبريطانية وفرنسية وسعودية وأردنية ومصرية وغيرها.
ومع هذا وذاك، هل يمكن للوثيقتين الأميركيتين المقدمتين من قبل الوزير جون كيري والمصاغتين بحضور وموافقة الطرف “الإسرائيلي” أن تشهدا النور، وأن تشقا طريقهما مع الطرف الفلسطيني الرسمي …؟
أغلب الظن بأن عواصف جون كيري السياسية وارتداداتها ونتائجها ومشاغلتها للمنطقة وأزماتها، لن تكون إلا زوابع في فنجان، وأن الخيبة ستكون مرة ثانية وثالثة ورابعة من نصيب تلك الوثائق الأميركية التي يتم تقديمها على حساب الشعب المظلوم والمنكوب وعلى حساب حقوقه الوطنية فوق ترابه وطنه التاريخي.
فالوقائع الحية والعنيدة على الأرض تقول بأن الشعب الفلسطيني ورغم كل الأوضاع القاسية والصعبة التي يعيشها في الداخل ودياسبورا المنافي والشتات لن يقبل بحلول مُقزمة تنتهك الحد الأدنى من حقوقه الوطنية والتاريخية كما أقرتها قرارات االشرعية الدولية منذ نكبة فلسطين عام 1948.
علي بدوان
كاتب فلسطيني/دمشق