قبل ثلاثة أعوام وتحديدا في السابع عشر من ديسمبر 2010، كان العرب على موعد غير مسبوق مع التاريخ، ولم يكن الأمر يحتاج أكثر من صفعة توجهها ممثلة السلطة الشرطية فادية حمدي للشاب محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد التونسية، بائع الخضر والفاكهة على عربة متنقلة، لكي يشتعل العالم العربي كله، فقد كانت هذه الصفعة هي القشة التي قصمت ظهر البعير ودفعت البوعزيزي، لكي يشعل النار في جسده بعد أن أغلقت في وجهه الأبواب.
حريق البوعزيزي من أقاصي تونس لا يزال يشتعل، وما زال اللهيب يخيف الآخرين الذين ينامون على قلق ويصحون على قلق، فما جرى في سيدي بوزيد يشكل محطة فارقة في تاريخ العرب الحديث، حيث انكسرت معادلة الخبز مقابل الخنوع، وهي المعادلة التي تضمن فيها السلطة للناس حق الحصول إلى الخبز مقابل الخنوع الكامل وعدم المطالبة بما هو أكثر من ذلك، إلا أن هذه المعادلة تفجرت عندما اختفى الخبز وضاعت الكرامة في الوقت نفسه، فلا الصمت جلب الوظيفة وطرد الفقر، ولا الخنوع أقنع السلطة بوقف تغولها واستبدادها واحتكارها للسلطة والثروة معا، فكان لابد من مفاعيل جديدة تتمثل بالتمرد، لأن طأطأة الرأس أدت إلى نفس النتيجة وهي، الإهانة والإذلال والصفع، وهذا ما كان فعلا.
لم تحتج تونس أكثر من 28 يوما لكي يسقط الدكتاتور زين العابدين بن علي، من 27 ديسمبر وحتى 14 يناير، سقط الجنرال وولى هاربا هائما على وجهه في سماوات ترفضه، وقبل أن يسقط كان دكتاتور مصر مبارك يترنح ليسقط بعده بوقت قياسي جديد لم يستغرق أكثر من 18 يوما، ما بين 25 يناير وحتى 11 من فبراير، ثم سقط سفاح ليبيا ومجنونها العقيد معمر القذافي، ملك الدم المتوحش، في 10 شهور، بعد أن قتل ما بين 50 ألفا إلى 70 ألف ليبي، ثم لتدور الدوائر على اليمني علي عبدالله صالح، الذي خرج من السلطة في صفقة إقليمية ضمنت له الخروج الآمن من المشهد المضطرب في اليمن.
شعلة البوعزيزي وصلت إلى سوريا في 25 مارس 2011 وتحديدا في درعا التي كتب الأطفال على جدرانها “جاك الدور يا دكتور”، مما أشعل ثورة سلمية لإسقاط النظام الطائفي الدكتاتوري المجرم، لكن الرياح سارت حيث لا تشتهي السفن في سوريا، وتحولت الثورة من سلمية إلى قتال مسلح تشارك فيه قوى إقليمية ودولية، وتحولت سوريا إلى رقعة من الشطرنج التي يتقاتل عليها الكل، والشعب السوري البطل هو وحده من يدفع الثمن من دمه، فلا الثورة انتصرت ولا النظام هزم ولا الحرب توقفت.
في العالم العربي اليوم يختلط الحلم بالكابوس، فالثورات الشعبية لاتهزم مهما كان الثمن، وإذا خبت فإنها تتحول إلى نار تحت الرماد، وهذا ما يجعل من حلم الانتصار حلما واقعيا وقريبا من المنال رغم التضحيات والدماء التي تسيل، لكن الوجه الآخر للربيع العربي هو الكابوس الذي كشف عن تعفن النخبة العربية وعن سقوط المثقفين، وعن انتشار حالة الجهل والتضليل بين مجاميع واسعة من الناس، فنصف المصريين انتخبوا أحمد شفيق، ممثل الفلول، وأحد أعضاء النظام الذي ثار عليه المصريون، صوت نصف الشعب المصري في عملية “غير مفهومة وغير منطقية وغير معقولة”، فكيف يصوت نصف الشعب لنظام دكتاتوري ثار عليه لإسقاطه.
انتصرت الثورة في مصر وأسقطت رأس النظام، لكنها عادت وانتكست مرة أخرى عندما انقلب العسكريون على الإرادة الشعبية وعلى الرئيس المنتخب، واستولى الجنرالات بقيادة السيسي على السلطة مجددا بدعم من الفلول والنخب الفاسدة ورجال الأعمال وأموال دول إقليمية ودعم دول أجنبية، مما دفع الوضع العربي إلى الكابوس مرة أخرى.. كابوس تسلط العسكر والجنرالات الانقلابيين.
صحيح أن الجنرالات المصريين نفذوا الانقلاب الخطأ في الزمن الخطأ، وهو لم ينجح بعد 6 شهور من تنفيذه، لأنه كان انقلابا غبيا، وصحيح أن الثورة لم تقتلع نظام الأسد الإرهابي المجرم حتى الآن في سوريا وأن النظام المجرم في دمشق ما زال يقتل ويلقي بالبراميل المتفجرة على رؤوس الناس، إلا أن شعلة الثورة لا تزال مستمرة، فلا شرفاء مصر عادوا إلى بيوتهم ولا ثوار سوريا خبا سعيهم للإطاحة بنظام الإجرام الطائفي الإرهابي.
رغم كل ذلك ما زال السوريون والمصريون والعرب كلهم بانتظار الحلم بانتصار الثورة و”كنس” الأنظمة الفاسدة الظالمة المستبدة الدكتاتورية التي خربت حياتنا ووضعتنا في ذيل الأمم ونحن أصحاب الدين والتاريخ والحضارة والعقول والطاقات الشبابية.
سينتصر الحلم العربي بإذن الله.. حلم الكرامة والعدالة والحرية، وسيهزم الكابوس.. كابوس الخوف والظلم والفساد والدكتاتورية.