يذكر التاريخ أن منطقة الخليج العربي كانت تعج بها الأزمات القبلية والحروب والكل يسعى لتثبيت قواعده لم تكن فارس بعيدة عن هذه الصراعات بهدف الهيمنة والسيطرة على الخليج العربي بضفتيه، ولم تكن بريطانيا بعيدة عنه والعثمانيون في صراع مع كل القوى التي تريد فرض هيمنتها على خليجنا العربي. لست في مجال سرد حوادث تاريخ الخليج العربي وما أصابه من محن وحروب وهدفي هنا أن نذكر ونتذكر مراحل تأسيس دولة قطر في عصرين مختلفين.
في الثامن عشر من شهر ديسمبر عام 1878 تولى الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني زمام قيادة البلاد بعد وفاة والده رحمه الله في التاريخ المشار إليه وتوافدت عليه قبائل أهل قطر لتبايعه على إدارة شؤونهم وحفظ حقوقهم. كان الشيخ جاسم محبوبا من أهل قطر لفطنته وكرمه وشجاعته وحبه للخير والعلم ، كان مفاوضا عنيدا مع البريطانيين من أجل حقوق وحماية أهل قطر يقول عنه الخبير بشؤون الخليج إبان الوجود البريطاني في المنطقة في ذلك العهد دكتور باترسون إن الشيخ جاسم استطاع بفطنته ورجاحة فكرة السياسي أن يحول بلده من تجمعات قبلية بدائية إلى كيان سياسي وبذلك يكون بحق المؤسس الأول لدولة قطر. ويقول باترسون وهو يتحدث عن علاقة بريطانيا بالخليج العربي “إن مسار التاريخ لم تحدده السياسة البريطانية وحدها بل حددته شخصيات محلية قوية، مارست تأثيرا في تحويل البلدان إلى دول. ويأتي في مقدمة هؤلاء الرجال الشيخ جاسم بن محمد الذي حكم إمارة قطر من تاريخ (1878 – 1913). ويذكر التاريخ أن الشيخ جاسم رحمه الله استطاع بذكائه وحكمته السياسية في ذلك العهد أن يحتفظ لنفسه بإقامة توازن بين القوة البريطانية التي تحيط بقطر من كل الجهات والنفوذ العثماني الذي كانت قطر تعتبر جزءا من الكيان الإسلامي للدولة العثمانية، وفي ظل ذلك التوازن لم يسمح لبريطانيا برفع علمها على أرض قطر طوال فترة حكمه. الشيخ جاسم مؤسس دولة قطر كان من أشد الداعين لقيام الوحدة الإسلامية ويذكر شهود الحال أنه قضى وأدمعه تسيل على خديه حزنا وألما لما أصاب الدولة العثمانية بصفتها رافعة راية الإسلام من ضعف وانكسار.
( 2 )
ذلك عصر فصلنا عنه 99 عاما جرى على صعيد قطر الكثير من الأحداث والحوادث، وأترك التاريخ في ملفاته ووثائقه وكتبه المسطرة وأقفز فوق السنين لأحط رحالي عند منتصف عام 1995. إنه العام الذي انتقلت فيه السلطة والقيادة سلميا إلى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي توافد أهل قطر كبيرهم وصغيرهم إلى قصر الحكم بمجرد سماع نبأ انتقال السلطة والقيادة له لتقديم البيعة والعهد والولاء لسمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ليكون أميرا على البلاد خلفا لوالده الشيخ خليفة بن حمد.
لا جدال بأن الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني يعتبر المؤسس الأول لعصر النهضة في قطر، ولا جدال بأن بينه وبين المؤسس الأول الشيخ جاسم تشابها وتماثلا، فالشيخ جاسم محب للعلم وفاهم للتاريخ وتقلب أحواله، كان شجاعا في مواقفه وصاحب إرادة سياسية تصدى بموجبها لكل العاديات على قطر في زمانه، كانت تحالفات الشيخ جاسم مع القوى الدولية المسيطرة على الواقع الدولي مبنية على الندية، كان محبا للوحدة الشاملة للعالم الإسلامي وداعيا لها كما يقول المؤرخون.
إذا أخذنا جانب سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة في حالة التشابه والتماثل نجد أن الأمير الوالد محب للوحدة العربية فقد ناصر وحدة اليمن قولا وعملا عام 1994، وناصر قيام الوحدة العربية في صباه عام 1958، وأيد قيام اتحاد دول مجلس التعاون الذي دعا له الملك عبد الله آل سعود عام 2010، وماثل جده الشيخ جاسم في حبه للعلم والعلماء والعمل من أجل انتشاره بين أبناء وطنه، فكانت خطوته الأولى عندما تسلم القيادة زيارة مدارس التعليم العام بنين وبنات مشجعا الطلاب والطالبات على التحصيل العلمي ومناشدا أعضاء هيئة التدريس ببذل المزيد من الجهود للنهوض بمستوى التعليم. خطوته الثانية كانت إلى الجامعة تنقل بين معاملها ومختبراتها ومكتباتها ملتقيا بالطالب والأستاذ داعيا الكل إلى التعلم والنهوض بالتعليم وزاد على ذلك جلب الجامعات الأجنبية إلى قطر بمعنى أنه أتى بالعلم والعلماء والجامعات المرموقة عالميا إلى قطر لتكون أقرب لطلاب العلم وبين أهلهم وذويهم. جعل قطر قبلة لأهل العلم والمعرفة بالمؤتمرات والمنتديات بمعنى أنه جعل من قطر ميدانا للحوارات الفكرية بين أصحاب الفكر من كل فج عميق، دعا وما برح يدعو لعودة العقول العربية التي هاجرت بعيدا عن الوطن العربي إلى وطنها الأم.
في مجال الإعلام عجزت الأنظمة العربية جميعها عن تأسيس محطة إذاعية أو تلفزيونية تنقل أحوال العالم العربي والعالم الثالث إلى الدول الأخرى بلغات تلك الدول فأسس لجهاز إعلامي متين بلغات متعددة تصل إلى كل قارات العالم.
في حرب عاصفة الصحراء كان سمو الأمير الوالد في معية أولاده البالغين سن الرشد في الجبهة الأمامية في منطقة الخفجي التابعة للمملكة العربية السعودية عندما هاجمتها القوات العراقية في ذلك الزمان. إنه شجاع كشجاعة جده المؤسس الشيخ جاسم الذي خاض حروب التأسيس جنبا إلى جنب مع أهل قطر الميامين.
لقد أصبحت قطر في عهد الأمير الوالد “كعبة المضيوم” كما كانت في عهد المؤسس الأول، فليس في عالمنا العربي مغبون أو مظلوم أو عزيز قوم وجاء إلى قطر إلا عزز وكرم وأمنت له كل سبل الحياة الكريمة وهذه شيم النبلاء من الحكام والمحكومين.
في مجال التوازن في العلاقات الدولية سار الأمير الوالد على درب الأجداد المؤسسين لدولة قطر فإذا كان المؤسس الأول الشيخ جاسم حافظ على توازن علاقاته مع القوى الكبرى في زمانه كما ذكرت آنفا فإن الأمير الوالد حافظ ورسخ مبدأ التوازن في علاقات دولة قطر مع جميع أطراف المجتمع الدولي وبذلك يكون حافظ على استقلالية قطر في قراراتها السياسية.
آخر القول: الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني وضع لبنات الأساس لدولة قطر وجاء سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ليكمل المشوار بوضع حجر الأساس لنهضة علمية سياسية اجتماعية في فترة زمنية قصيرة لهذا كله نحتفل اليوم بيوم مولد الدولة والدخول في معراج الحداثة معاهدين وعازمين على إكمال المشوار بقيادة سمو الأمير تميم بن حمد أمير البلاد المفدى.