أين هم الشبان الذين احتشدوا قبل نحو ثلاثة أعوام في الميادين والساحات مطالبين بسقوط من سمّوه المستبد او الديكتاتور او الطاغية؟ وهل يتذكرون شارات النصر التي رفعوها حين بلغهم نبأ فراره أو تنحيه أو مقتله؟ هل يتذكرون الأحلام التي ارتكبوها في تلك الأيام وحديثهم عن الديموقراطية ودولة المؤسسات والشفافية وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان؟ هل تصرفوا فعلاً بدافع الحماسة أم البراءة أم السذاجة؟ وهل كانوا غرباء عن مجتمعاتهم لا يعرفون حجم الظلام المستحكم في أعماقها وآبار الكراهية التي كانت تتحين الفرصة للانفجار؟ هل غاب عن أذهانهم أن المشكلة ثقافية قبل أن تكون سياسية؟ وأنه لا يكفي فتح صناديق الاقتراع لقلب الصفحة السابقة؟ وأن قروناً من العتمة ساهمت في اعتقال العقل العربي وتعطيله وجعلت العربي عاجزاً عن تحريك المفاتيح التي تقود الى المستقبل؟
منذ أسابيع يطاردني سؤال مزعج هو من قتل «الربيع العربي»؟ لهذا أغتنم فرصة اللقاء بأي من المنخرطين البارزين في ذلك الربيع لأسأله عن تقويمه خصوصاً بعدما ضاقت بعض مسارح الربيع بمن كانوا دعاة الديموقراطية وبناء الدولة الحديثة. لن أورد أسماء من سألتهم لأن اللقاءات لم تكن مخصصة للنشر.
لعب الرجل دوراً مهماً في «ربيع» بلاده حين وجه ضربة مؤلمة الى المستبد الذي عمل سنوات تحت صورته. سألته فأجاب: «لا أدري. ربما جاء ما تسمّيه الربيع مبكراً وقبل أن تصبح مجتمعاتنا جاهزة لاستقبال تحول بهذا الحجم. تبين أننا لا نزال نعيش في أعماق التاريخ. مع سقوط المستبد بدأت مجتمعاتنا في إخراج كل ما تجمع في إحشائها من الدم والقيح والكراهيات والقهر والثارات. أعتقد أن المرحلة الانتقالية ستكون راعبة وطويلة. في أي حال احتاجت الثورة الفرنسية إلى ثمانية عقود كي تستقر».
وأضاف: «أننا في حالة رهيبة من التخلف. راقب الشاشات. استاذ جامعي يتحدث كأنه لم يدخل عصر القراءة والكتابة. انظر أن دولاً مثل العراق وسورية ولبنان والبحرين تدفع اليوم فاتورة ما حدث بين عليّ ومعاوية. نتحدث عن العولمة والتكنولوجيا ثم ننام في كهوف التاريخ. عواصمنا أقرب الى المسالخ تغص بالانتحاريين ومرتكبي الاغتيالات ودولنا تعجز حتى عن توفير الكهرباء بصورة منتظمة. مجتمعاتنا ساهمت في قتل الربيع خصوصاً حين تصدّر أسرى التاريخ الصفوف».
لاعب آخر قدم قراءة مختلفة. قال إن أبرز من قتل الربيع هم الذين سارعوا الى محاولة تكييفه مع مصالحهم. قال إن الغرب تصرف كدجال خصوصاً أميركا أوباما. أرادت واشنطن توجيه الظاهرة في خدمة سياسة كانت اعتمدتها قبل سنوات وجوهرها دعم وصول ما تسميه الإسلام السياسي المعتدل لاعتقادها أنه قادر على احتواء الإرهاب. وأضاف أن «الإخوان» الذين كانوا الأكثر تنظيماً وانتشاراً في المجتمع اعتبروا الفرصة تاريخية فانقضوا على الوليمة.
قال ايضاً إن تركيا لعبت دوراً في قتل «الربيع» حين اعتبرت أن انتصار «الربيع الإخواني» يعطيها ورقة ثمينة في تنافسها الاستراتيجي مع إيران. وأن قطر وظفت ثقلها المالي وعلاقاتها الدولية في خدمة «الربيع الإخواني» بالتوازي مع الدور التركي. لاحظ أن روسيا كانت مهتمة بقتل «الربيع الإسلامي» خوفاً من تحوله ورقة في يد الغرب وخوفاً من انتقاله الى جوارها وأراضيها. وقال إن روسيا وجدت في الأحداث السورية فرصة لقتل هذا الربيع والتقت معها في هذه المهمة إيران وإنْ كان لحسابات غير مطابقة.
رأيت في كلام الرجلين ما يساعد على فهم ما يجري حالياً في أكثر من بلد عربي. استوقفني أن «الربيع العربي» قتل على أيدي أكثر من طرف. أغلب الظن أننا في بدايات موسم العواصف. مرحلة انتقالية مؤلمة وطويلة. أول شروط الذهاب الى المستقبل هو الخروج من كهوف التاريخ وأوهام امتلاك حلول نهائية جاهزة لمشكلات جديدة مطروحة في عالم سريع متدفق.
غسان شربل/من قتل «الربيع»؟
14
المقالة السابقة