الثلاثاء 09 أغسطس 2011 أخذ الزعيم العملاق نيلسن مانديلا قلمه و كتب للعرب وبخاصة لتونس ومصر باقة من الحكم والنصائح رغم سنه المتقدمة ومشاغله العديدة فقد كان يستجيب لنداء وجداني هتف به ضميره عندما وردت عليه أنباء الربيع العربي وتيقن بحدسه القوي أن هذه الانتفاضات العربية مهددة بالإجهاض لأنه أدرك مدى انحراف قادتها الذين عوضوا الأنظمة المخلوعة ومستوى الأخطاء التي وقعوا فيها حين فتحوا أبواب الانتقام واعتقدوا أن التاريخ يبدأ من يوم تنصيبهم وأن ما كان قبلهم لم يكن سوى خراب ويباب. تكلم الزعيم مانديلا بلسان التجربة والحنكة والنجاح في منهجه حيث اختار طريق الوفاق والمصالحة حين عين رجل الكنيسة الأب ديسموند توتو على رأس لجنة غايتها طي الصفحة وتدشين عهد جديد لا يلغي البيض ولا يعلي عليهم السود إنما أقر أن لكل مواطن كرامة و حقوقا وصوتا في الانتخابات. ونعلم بعد ذلك أن جنوب إفريقيا استعادت منزلتها المتقدمة في المحافل الدولية وسادتها فترات طويلة من الأمن الأهلي والسلام المدني. وأراد مانديلا ألا يقع الحكام العرب الذين أتت بهم هذه الثورات في مطبات الإقصاء والتفكير في بناء دولة على لا شيء ولكن لا حياة لمن تنادي حتى بلغنا مرحلة الترحم على الطغاة والكفر بالتغيير وربما الاستعداد لهزات أخرى تقوض الباقي من المكاسب مثلما يقع اليوم في مصر ومثلما رأينا انحلال مؤسسات الدولة في ليبيا وكما نشاهد في تونس من تعطل حوار وطني لم يتوافق حتى إلى اختيار رئيس حكومة مؤقتة أما الحالة السورية فيكاد يقنط من حلها أكثرنا تفاؤلا.
للتذكير نعيد للأذهان بعض فقرات من نصائح الرجل الحكيم الذي فقدناه هذه الأيام. كتب مانديلا للعرب فقال: “أعتذر أولاً عن الخوض في شؤونكم الخاصة، وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا ينبغي أن تقحم فيه. لكني أحسست أن واجب النصح أولاً، والوفاء ثانيًا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان علي رد الجميل وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجنتْه الأيامُ وأنضجته السجون”. ثم يعيد الزعيم الكبير التذكير بالمنعرج الحاسم و المفصلي الذي دفعه في طريق الوفاق الوطني فيكتب: “أحبتي ثوار العرب؛ ما زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يومًا مشمسًا من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه 27 سنة من العمر، خرجت إلى الدنيا بعدما وُورِيتُ عنها سبعًا وعشرين عامًا لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو:
كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً؟ هكذا تساءل مانديلا في أواخر الثمانينيات وهنا لا بد أن نسجل أن هذا السؤال الجوهري هو الذي طرحته الأحداث الجسام التي عاشتها بلدان الربيع العربي سنة 2011 ويواصل مانديلا نصيحته بوعي شديد باللحظة التاريخية العربية قيقول: “أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير وهو سؤال قد تحدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم.
إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم
فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي
أو على لغة أحد مفكريكم – حسن الترابي- فإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل.
أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء، كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة.
ذاك أمر خاطئ في نظري.
أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن. أنتم في غنى عن ذلك، أحبتي.
إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن.
عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً، ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.
أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم أن لا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من أسهم في ميلاد حريته.
إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.
أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلت “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر.
إنها سياسة مرة لكنها ناجحة. هكذا أنهى الزعيم الراحل نصائحه الحكيمة للعرب ولكن العرب يبدو أنهم لم يعملوا بها بل أدهى وأمر لم يقرأوها في دوامة فتنة السلطة فهل بينهم رجل رشيد يتدارك المراكب العربية قبل الغرق؟