ما عاد فتح صفحة جديدة مع إيران خيارا مطروحا على مصر، لأنه غدا ضرورة تفرض نفسها ضمن واجبات الوقت.
(1)
مصطلح «الصفحة الجديدة» استعرته من تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التي أدلى بها أثناء زيارته للكويت في الأسبوع الماضي، ضمن الجولة التي زار خلالها قطر وسلطنة عمان والإمارات، التي ذكرت الصحف أنه ستعقبها زيارة يقوم بها للسعودية الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص المصلحة ورئيس الجمهورية الأسبق.
هذه الجولات تأتى في إطار مسعى الصفحة الجديدة التي تسعى إيران لفتحها مع دول منطقة الخليج، التي اتسمت علاقاتها مع طهران بالتوجس والقلق منذ قيام الثورة الإسلامية في عام 1979. وهو قلق تزايد بصورة نسبية بعد الإعلان عن المشروع النووي الإيراني. ثم تضاعف مؤخرا حين تم التفاهم بين واشنطن وطهران الذي أسفر عن توقيع الاتفاق بين إيران ومجموعة الدول الخمس في جنيف على حل مبدئى لأزمة البرنامج النووي، التي ظلت معلقة بين الطرفين بلا حل منذ سبع سنوات. وفي أعقاب إعلان ذلك الاتفاق زار طهران وزير خارجية دولة الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد، حيث التقى هناك نظيره الإيراني وافتتح المقر الجديد لسفارة بلاده هناك. في تزامن بدا متجاوبا ــ ربما مصادفة ــ مع الدعوة إلى فتح صفحة جديدة بين الجانبين، الذين ظلت علاقاتهما مشوبة بالتوتر بسبب النزاع حول الجزر الثلاث. ولفت الانتباه أن وزير الخارجية الإيراني كان قد كتب مقالة في صحيفة الشرق الأوسط (يوم 21 نوفمبر) قبل جولته، دعا فيها إلى ترتيب إقليمى جديد يضم الدول الثماني المطلة على الخليج (دول مجلس التعاون الخليجي الست زائد إيران والعراق) يحقق التعاون بين تلك الدول، وأشار فيه الإفادة من مضيق هرمز بحيث يصبح مصدرا لازدهار الجميع.
من التصريحات التي لفتت الانتباه أيضا أن الوزير الإيرانى أعرب أثناء جولته عن استعداد بلاده للتفاهم مع دولة الإمارات بخصوص جزيرة أبو موسى (أكبر الجزر الثلاث المتنازع عليها). كما أنه شدد على أهمية التعاون مع المملكة العربية السعودية «لإرساء السلام والاستقرار في المنطقة». وهو الذي كتب على موقع تويتر بعد جولته قائلا إن جولته بينت «أن ما يوحدنا أكبر بكثير من خلافاتنا البسيطة».
(2)
بالتوازي مع هذه التحركات، وجدنا أن وزير خارجية تركيا الدكتور أحمد داود أوغلو قام بزيارة سريعة لقطر. وبعدها بأيام كان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في الدوحة (الأربعاء 4/12). وقد وصل إليها بعد 48 ساعة من تسليم رسالة خطية بعث بها الرئيس التركي عبدالله جول إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، وفهم أن هذه الاتصالات شملت ــ إلى جانب تعاون البلدين ــ أمورا عدة على رأسها القضية السورية، وذكرت صحيفة الحياة اللندنية أن المباحثات شملت أيضا الملفين المصري والإيراني.
حين كان أردوغان في الدوحة، كان رئيس الاستخبارات السعودية الأمير بندر بن سلطان في زيارة نادرة وغير مألوفة لموسكو، التقى فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومما قاله الناطق باسم الكرملين إن المباحثات تناولت ملفين أساسيين هما: النووي الإيراني والأزمة السورية ومؤتمر جنيف الخاص بها. وقبل وصول الأمير بندر كان رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان قد قام بزيارة لها اجتمع خلالها مع الرئيس بوتين، التي لوحظ أن الموقف التركي أصبح بعدها أكثر مرونة بخصوص الملف السوري، حيث اتفق الطرفان على الدعوة إلى وقف إطلاق النار من جانب المعارضة والنظام قبل انعقاد مؤتمر جنيف، وكان وزير الخارجية التركي الدكتور أحمد أوغلو قد تنقل في وقت سابق بين طهران وبغداد لإجراء اتصالات وثيقة الصلة بزيارة أردوغان لموسكو.
هذا الذي ذكرت يرصد جانبا من التحركات المعلنة التي تسارعت في المنطقة في أعقاب التفاهم الإيراني الأمريكي وتوقيع إيران لاتفاق جنيف، الذي بدا مؤشرا على حدوث متغيرات مهمة في الموازين والخرائط السياسية، على الصعيدين الإقليمي والدولي. وقد لاحت مقدمات ذلك التغيير منذ تم الاتفاق بين موسكو وواشنطن على تجنب الضربة العسكرية لسوريا لتفكيك والتخلص من كل ما يتعلق بالكيماوي السوري. ثم قطع التغيير شوطا أبعد باتفاق الإطار الذي وقع في جنيف لاحقا ونجح في علاج الجوانب الشائكة والمعقدة في البرنامج النووي الإيراني، وبمقتضاه اتخذ كل طرف عدة خطوات إلى الوراء. فإيران قبلت بالحد من تخصيب اليورانيوم في تنازل مهم، في مقابله قررت الدول الكبرى رفع بعض العقوبات الاقتصادية ومراقبة الموقف لستة أشهر.
هذا الاتفاق الأخير بدا وكأنه حجر ثقيل ألقى في مياه الشرق الأوسط الراكدة، فخلط أوراقه وأربك خرائطه. فالخليج الذي كان يعتمد على الغطاء الأمريكي في مواجهة إيران، أدركت دوله أن ذلك الغطاء اهتز. وإيران المنبوذة من بعض الدول الرئيسة في المنطقة أصبحت في موقف أقوى كاد يحولها إلى مرغوبة، بعدما نجحت في مد جسورها إلى واشنطن. والمراهنات على إسقاط النظام السوري بقوة السلاح، وبنت على ذلك تغييرا في خرائط المشرق يشمل لبنان والعراق على الأقل، تراجعت وما عاد لها محل. والتباعد الذي حدث بين طهران وأنقرة بسبب تعارض المواقف إزاء سوريا تحول إلى تفهم وتقارب وصل إلى حد ترتيب زيارة تفترض أن يقوم بها الرئيس الإيراني حسن روحاني لأنقرة خلال الأسابيع القليلة القادمة. والقطيعة التي حدثت بين قطر وحزب الله بسبب الموقف في سوريا ثم تجاوزها بعد استقبال السيد حسن نصر الله لمبعوث قطري مؤخرا.
(3)
في هذه الأجواء تلوح في الأفق محاور جديدة. فإيران تبدو أقرب إلى روسيا والصين، ولها على الأرض نفوذها في سوريا والعراق ولبنان (ثمة كلام عن دور لها في اليمن والبحرين). وفي الوقت ذاته فإن التفاهمات بين حكومة الرئيس حسن روحاني وبين الإدارة الأمريكية تجاوزت مرحلة الخصام وهتاف «الموت لأمريكا». وتركيا المرتبطة بملف الناتو توظف ما تتمتع به من مرونة في مد جسورها مع طهران وموسكو وتلين بصورة نسبية ما موقفها إزاء سوريا، في الوقت الذي تحتفظ على الأرض برصيدها مع المعارضة السورية وتمد يدا لحكومة بغداد من ناحية وأكراد أربيل من ناحية ثانية، في الوقت الذي تقوى من علاقاتها مع قطر. ولعلك لاحظت أن وزير خارجية إيران نوة أكثر من مرة إلى أهمية الدور السعودي برمزيته في عالم أهل السنة في تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، التي تتجاوز محيط الخليج لتشمل دولا أخرى مثل سوريا والعراق ولبنان، التي للسعودية حضورها فيها المعلن وغير المعلن. وهو الدور الذي دفع رئيس الاستخبارات السعودية لشد رحاله إلى موسكو لمناقشة الملف السوري مع الرئيس بوتين.
استوقفتني في هذا الصدد ملاحظة سجلها المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة في تقرير له صدر يوم 28/11 ذكر فيها ما نصه: الحوار بين إيران ودول الخليج من المتغيرات التي ستعيد ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط. وقد ينتج عنه شرق أوسط يعتمد على ثلاث قوى هي إيران والسعودية وإسرائيل، لتكون مرتكزا للاستقرار في المنطقة.
(4)
ربما لاحظت أن أحدا لم يأت على ذكر مصر فيما يجرى من مشاورات وتحليلات، حتى مركز الدراسات الذي يتخذ من القاهرة مقرا له أغفل الإشارة إليها، كما رأيت توا. وإذا تفهمنا إمكانية استبعاد تركيا فإن عدم الإشارة إلى مصر بكل حجمها ووزنها وتاريخها أمر له دلالته التي ينبغي أن تستوقفنا.
لقد صدر بيان عن الخارجية المصرية يوم 24/11 تعليقا على الاتفاق الذي وقعته مجموعة الدول الكبرى مع إيران في جنيف، ووجدته مناسبا تماما في التعبير عن دولة غائبة بلا دور. إذ رحب بالاتفاق وأعرب عن الأمل في أن يفضى إلى اتفاق دائم يأخذ في الاعتبار الشواغل الأمنية لكل دول المنطقة، استنادا إلى مبدأ الأمن المتساوي للجميع. وذلك وفقا لما طرحته مصر نحو إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وكل أسلحة الدمار الشامل، بطريقة جادة وفعالة بعيدة عن المعايير المزدوجة أو الاستثناءات. وذكرت الصحف تصريحا للمتحدث باسم الخارجية المصرية أعاد إلى الأذهان حديث وزير الخارجية المصري أمام الأمم المتحدة، عن تطلع مصر لأن تمثل التغيرات بعد انتخاب الرئيس الإيراني مؤشرا مستقرا نحو علاقات حسن الجوار بين إيران وجيرانها في منطقة الخليج.
إن بيان الخارجية المصرية قرأ اتفاق جنيف من ثقب صغير وزاوية شديدة التواضع، أزعم أنها أبعد ما تكون عن رؤية الدولة المحورية أو حتى الشقيقة الكبرى، التي تدرك تأثيره على توازنات المنطقة ومستقبلها. وأذهب في ذلك إلى أن دولة صغيرة الحجم مثل موريتانيا أو جزر القمر لو عنَّ لها أن تعلق على الاتفاق فلن تذهب إلى أبعد مما أورده بيان خارجيتنا الموقرة، التي يبدو أنها لم تستوعب بعد تأثير ما جرى سواء على دور مصر أو على الشرق الأوسط الذي تنسج خرائطه وترسم خرائطه في الوقت الراهن بعيدا عن عواصمه.
من مفارقات المشهد أن مصر إذا أعادت التفكير في علاقاتها مع إيران فلن تجد سببا وجيها يمس مصالحها المباشرة يبرر القطيعة التي استمرت بين البلدين طوال أكثر من ثلاثين عاما. علما بأن طهران هي التي بادرت إلى قطع العلاقات معها في عام 1979 استجابة لطلب من ياسر عرفات، بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد حينذاك، لذلك أزعم أن محاولة فتح صفحة جديدة مع طهران لا تتطلب في الوقت الراهن أكثر من إرادة سياسية ورؤية إستراتيجية ناضجة لا تتحرى المصالح المشتركة للبلدين فحسب، وإنما أيضا تعزز الموقف العربي وتؤمنه. ذلك أن أي ترتيبات للمنطقة في أوضاعها الرخوة الراهنة ستكون على حساب مصالحها في نهاية المطاف. وغيبة مصر لا تسحب من رصيدها وتضر بمصالحها فحسب، ولكنها أيضا تضعف كثيرا من الموقف العربي وتهمشه.
في زمن العافية تحدث الدكتور جمال حمدان عن المثلث الذهبي الذي ارتآه في تحالف الدول الكبيرة في المنطقة مصر وتركيا وإيران، لكننا ما عدنا نرى في زماننا سوى مثلث الصراع على الهيمنة التي تتنافس عليها الدول المحيطة بالعالم العربي. إن مصر لا تملك ترف الاكتفاء بموقف المتفرج على ما يجرى، لأن مسؤوليتها الوطنية والقومية تفرض عليها أن تثبت حضورا من خلال تحرك سياسي يليق بحجمها ووزنها. صحيح أن جهدا يبذل الآن لتجاوز الأزمة الاقتصادية، لكنني أخشى أن يستغرقنا همّ اللحظة بحيث يخرجنا في النهاية من التاريخ.