طول بقاء الكيان الصهيوني والتدخل الغربي في المنطقة احتلالًا واستعمارًا، أعطاهما القدرة اللازمة والكافية لمعرفة دقائق المنطقة وخصوصياتها، بل عملا على ذلك ليسهل لهما بناء سياسات ووضع خطط من شأنها الحفاظ على استمرارهما، ولم يملَّا يومًا في سعيهما إلى السيطرة المطلقة على المنطقة مهما كانت العقبات، وقد تعزز هذا السعي بعد سقوط الكتلة الشرقية الممثلة في الاتحاد السوفيتي، وتسيُّد الولايات المتحدة العالم قطبًا أوحد وقوةً مهيمنة، حيث على إثر ذلك اشتغل الغرب مدفوعًا من قبل كيان الاحتلال الصهيوني وفق مسميات كانت في حقيقتها عبارة عن خطط متضمنة مشاريع وأهدافًا استعمارية بحتة وسيطرة مطلقة تحقق أمرين هما المحركان للسياسة والآلة الصهيو ـ غربية: المصالح الغربية وأمن كيان الاحتلال الصهيوني. وبدأت تتكشف هذه المخططات والسيناريوهات بصورة واضحة بُعيْد مؤامرة غزو العراق وتدميره وإخراجه من معادلة الصراع العربي ـ الصهيوني، حيث أعقب عملية تدميره ظهور مصطلح “خريطة الطريق” التي في شكلها الظاهري أنها تهدف إلى إنصاف الشعب الفلسطيني وتحقيق السلام العادل الشامل، في حين في جوهرها تكرس الكيان الصهيوني قوة احتلال، لتتوج هذه الخريطة فيما بعد برسالة الضمانات من قبل الرئيس الأميركي جورج بوش “الصغير” إلى أرييل شارون رئيس حكومة الاحتلال آنذاك. ولما انكشفت حقيقة “خريطة الطريق” برسالة الضمانات لم يتوقف كيان الاحتلال الصهيوني والقوى الغربية عن السعي إلى البحث عن سيناريو آخر، لِتُفاجأ المنطقة بإعلان القابلة كونداليزا رايس في صيف عام 2006م عن ولادة “مشروع الشرق الأوسط الكبير” الذي استطاعت المقاومة اللبنانية أن تقبره في مهده قبل أن يتنفس هواء المنطقة. إلا أنه ورغم ذلك فإن قوة الاحتلال الصهيوني وقوة التدخل الغربي لم تعرف الاستسلام أو تصاب بالإحباط، وإنما تراكم الخبرة سمح لهما بإيصال المنطقة إلى هذا النحو المشاهد من الفوضى المسيطرة عليه الآن والذي أعطته تلطيفًا مسمى “الربيع العربي” الذي بدوره تحول إلى ضرع مدرار فاستطاعت هاتان القوتان أن تفيدا منه إفادة كبيرة في تحويل دفة الصراع العربي ـ الصهيوني إلى صراع طائفي (سني ـ شيعي) ونقل المعركة إلى داخل الوطن العربي وبعثرة التنوع الفسيفسائي للمجتمعات العربية بإعلاء نبرة الطائفية والمذهبية، وحتى الأقطار التي تخلو من التنوع الطائفي لم تسلم وذلك بإحداث شروخ عميقة بين مكوناتها وتقسيمها على أسس سياسية وطائفية وسط ترويج كاذب وممجوج لشعارات “الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والدولة المدنية”؛ أي تدمير كل قطر عربي تدميرًا ذاتيًّا على النحو الذي يراه الجميع في سوريا والعراق ولبنان وتونس وليبيا ومصر واليمن وغيرها.
قوة الاحتلال الصهيوني المدعومة غربيًّا لم تقصر رهانها على ضرع “الربيع العربي” وحده، بل أرادت أن تتقدم خطوة إلى الأمام والبحث عن ضرع آخر، فوجدت ضالتها في الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والقوى الغربية (مجموعة 5+1)، لتمارس دورًا تمثيليًّا مخادعًا من خلال إعلان معارضتها للاتفاق وإبداء امتعاضها منه لتملأ مواعين احتلالها من هذا الضرع، ويتمثل ذلك في:
أولًا: تمظهر قادة كيان الاحتلال الصهيوني برفض الاتفاق النووي، لمعرفتهم أن هناك قوى عربية وإقليمية ترفض هذا الاتفاق وأي تقارب بين إيران والغرب، وتفضل الإبقاء على سياسة المواجهة والاحتواء والعقوبات المشددة، وبالتالي أراد قادة الاحتلال فتح قنوات اتصال علنية مع هذه القوى العربية على قاعدة معارضة الاتفاق والتي يعتقد أن ليس أي تقارب بينها وبين الكيان الصهيوني بأي صورة كانت سرية أو علنية.
ثانيًا: يرى قادة الاحتلال أن الالتقاء على قاعدة رفض الاتفاق النووي سيخدم السياسة الاستيطانية والتوجهات الصهيونية، من حيث عدم الاعتراض على الاحتلال وعلى قاعدة “أدعمكم في مواجهة إيران ادعموني في مواجهة الفلسطينيين والضغط عليهم بتقديم تنازلات أكبر وفي مقدمتها الاعتراف بيهودية كياننا وبالقدس عاصمة أبدية موحدة، والتنازل عن حدود عام 1967م”.
ثالثًا: إن الالتقاء على قاعدة معارضة الاتفاق النووي الإيراني سيفتح أبواب التطبيع والتعجيل به، وسيضفي الشرعية على كيان الاحتلال دون تقديم أي تنازلات على عكس ما كانت المبادرة العربية تسعى إليه.
رابعًا: تغيير النظرة السائدة لدى المواطن العربي على أن العدو الأول والأوحد للعرب هو كيان الاحتلال الصهيوني، وإنما العدو الأول والأوحد هو إيران. ولذلك لم يأتِ من فراغ ما لفت إليه عامي دور أون، من معهد بيجن ـ السادات للدراسات الاستراتيجية في دراسة جديدة نشرها على الموقع الإلكترونيّ للمعهد، إلى أنه “لن تكون مفاجأة إذا ما تبين لنا جميعًا ذات يوم أن خلف الكواليس وبسرية تامة تجري اتصالات قيادية بين “إسرائيل” وبعض من جيرانها الإسلاميين للوصول إلى الصفقة الآتية: أنْ تعرض “إسرائيل” خيارها النووي كأداة استراتيجية تُوفر الحماية المناسبة لكل الجيران المهددين من إيران، وبالمقابل تحصل “إسرائيل” على مكانة دولة زميلة في معسكر جديد من السلام الشرق أوسطي.
خامسًا: إن إيهام بعض القوى العربية بمعارضة الكيان الصهيوني للاتفاق النووي يعني استمرار التنسيق فيما بينهما حول ملفي الأزمة السورية وحزب الله، واستمرار عملية دعم الإرهاب داخل سوريا ولبنان بهدف إحداث التدمير المطلوب ضد الدولة السورية وجيشها العربي، وبهدف ضرب الاستقرار وتوتير الأجواء في لبنان وإرباك المقاومة اللبنانية بما يسمح باصطياد قادتها ورموزها ورصد تجمعاتها وأماكن تخزين سلاحها.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com