تُشير مختلف المعطيات الصادرة عن مراكز بحثية في “إسرائيل” والولايات المتحدة، لحدوث تحولات نوعية داخل أوساط عموم اليهود في العالم، وخاصة يهود دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، وهي تحولات تتعلق بعلاقات يهود العالم بالدولة العبرية، وقد بدأت تحفر أخاديدها ولو ببطء داخل تلك المجتمعات التي ينتمون إليها باعتبارهم مواطني تلك البلدان في نهاية المطاف.
إن التحولات ليست طارئة وليست آنية، بل هي تحولات ما زالت تسير باتجاه تراكمي واضح على ضوء المتغيرات الجارية في العالم ككل وفي الشرق الأوسط خصوصاً، في ظل مواصلة الشعب الفلسطيني لكفاحه الوطني بالرغم من الظروف الصعبة والقاسية التي يمر بها، وبالرغم من الدعم الكبير واللا محدود الذي تقدمه الولايات المتحدة لـ “إسرائيل” والتغطية السياسية على سياساتها الاستعمارية والاستيطانية.
وفي هذا الإطار فإن كل المؤشرات الدراسية تنحو للاستنتاج بأن غالبية المواطنين اليهود في العالم باتوا لا يرغبون على الإطلاق بالهجرة الاستيطانية إلى الدولة العبرية المسماة بـ “إسرائيل”. فيهود فرنسا على سبيل المثال وهم مواطنون فرنسيون في نهاية المطاف، يفضلون كندا في حال رغبتهم بالهجرة إلى خارج وطنهم الأم فرنسا، وفي مقاربة ذات معنى أوردتها الصحف العبرية: هاجر أكثر يهود فرنسا (وعدتهم اليوم 500 ألف) إلى فرنسا من شمالي إفريقيا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وأصبح جمهورهم الأعظم فرنسيا، واندمجوا في المجتمع وفي الثقافية الفرنسية، وأكثرهم بحسب الاستطلاعات، لا يرون تناقضاً بين هويتهم الفرنسية وهويتهم اليهودية، ولا يعتقدون أن ديانتهم اليهودية تشكل عائقاً لتقدمهم الشخصي في المجتمع الفرنسي وهو أمرٌ على غاية من الأهمية ويصيب بالصميم الدعاوى التحريضية التي أطلقتها المنظمة الصهيونية العالمية منذ ما قبل قيام الدولة العبرية على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني، في الوقت الذي لا تخفي فيه مصادر الوكالة اليهودية رغبتها الجامحة لدفع يهود فرنسا على وجه الخصوص للهجرة الجماعية نحو الكيان الصهيوني، مع توافر ثلاثة عوامل محبذة وراء ذلك من حيث التعداد النسبي العالي ليهود فرنسا البالغ عددهم بحدود (600) ألف أولاً، وقوة نفوذه هذا التجمع في المؤسسات الفرنسية الرسمية وغيرها ونفوذ اللوبي اليهودي في فرنسا مع تعدد المنظمات اليهودية المنتشرة هناك، والسطوة الواضحة للاتجاه اليهودي الأرثوذكسي وأهدافه المتقاطعة مع اليمين “الإسرائيلي” بشقيه العلماني والتوراتي ثانياً، وتأثيره العالي في الدائرة الأوروبية ثالثاً.
أما اليهود من جنوب القارة الأميركية فيفضلون حسب دراسات عدة صادرة عن مراكز أبحاث مرموقة ويُعتَدُ بها ومنشورة، يفضلون الهجرة إلى أستراليا. بينما يهود الأرجنتين يفضلون مدن الساحل الغربي للولايات المتحدة على تل أبيب ذاتها.
وفي هذا السياق، فإن انخفاضاً محسوساً وملموساً بات واضحاً في أعداد اليهود الذين يعيشون في العالم ككل، بينما تضاعف عدد السكان اليهود على أرض فلسطين التاريخية (المناطق المحتلة عام 1948 وكذا المحتلة عام 1967) منذ العام 1970. وترجع مصادر الوكالة اليهودية أسباب انخفاض أعداد اليهود في العالم (عدا فلسطين المحتلة) لجملة من الأسباب يقف على رأسها الزواج المختلط والذوبان في المجتمعات الأصلية المحلية، فهناك تحولاً داخل الأوساط اليهودية في بلدانها الأصلية بدأ يحفر أخاديده على أرض الواقع من خلال ارتفاع نسبة الزواج المختلط، حيث تدل المعطيات أن نسبة الذوبان في روسيا وصلت إلى (70%) وفي أميركا الشمالية إلى (50%) وفي أوروبا الغربية إلى (45%)، حيث أمست مصادر الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية تتحدث عن إشارات عدة لترك اليهودية وهم يخشون حتى من اضمحلال يهود أميركا.
وهناك سبب آخر في انخفاض عدد اليهود في العالم، ويمثل في الهجرة الاستيطانية التهويدية الاستعمارية إلى فلسطين المحتلة، بالرغم من تراجعها المستمر من عام لآخر، فقد بات ملف النضوب المتسارع لخزان الهجرة الاستيطانية اليهودية الصهيونية إلى الدولة العبرية وجفافه التدريجي ملفاً مُعقداً يثير القلق والخوف داخل الدولة العبرية الصهيونية ولدى الوكالة اليهودية، خصوصاً مع تزايد حالة الإحجام عن المجيء إلى فلسطين، والتي تبديها القطاعات اليهودية في بلدانها الأصلية في أوروبا والأميركيتين ودول وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. فقد أزفت اللحظة الذهبية السابقة على نهايتها ودقت نهايتها وولت، وهي اللحظة التي جعلت من المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية تعمل على تحشيد قوافل الهجرة الاستيطانية التوسعية اليهودية الصهيونية إلى فلسطين، بعد أن تراكمت وفاضت أرقام هجرة اليهود الروس باتجاه فلسطين المحتلة، حيث وصل خلال الفترة (1990 – 2000) نحو مليون يهودي، بينما كان المتوسط القياسي خلال سنوات ثمانينيات القرن الماضي (15) ألف سنويًّا وفي السبعينيات (70) ألف سنويًّا. حيث كانت الهجرة الاستيطانية الكبرى ليهود الاتحاد السوفييتي خلال الفترة التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي قد ساهمت بأكثر من (67 %) من إجمالي الزيادة السكانية اليهودية على أرض فلسطين التاريخية خلال الفترة المذكورة.
لقد بقي الحديث عن تدني منسوب الهجرة الاستعمارية الصهيونية إلى فلسطين خلال السنوات الأربع الماضية، مفتوحاً وبلا نهاية داخل “إسرائيل”، حيث تحتل عمليًّا رأس سلم أولويات مراكز القرار، التي تدعو (ليل نهار) كل يهود العالم إلى الهجرة والقدوم نحو الدولة العبرية والاستيطان فيها في مناطق القدس والضفة الغربية وعموم فلسطين المحتلة عام 1948 على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وعلى أرض الجولان العربي السوري المحتل. فقد كانت “إسرائيل” قد حددت كهدف استراتيجي لها، جلب مليون يهودي خلال عقد من الزمن تماماً كما فعلت بقيادة حزب العمل في العقد الأخير من القرن الماضي، من خلال جلب مليون يهودي من دول وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق بعد انهياره وتفككه عام 1990.
وخلاصة القول، نحن أمام معادلة تتعقد كل يوم، فيهود العالم من مواطني دول الغرب الأوربي والولايات المتحدة سائرون باتجاه البحث عن مصالحهم في أوطانهم الأصلية التي يتمتعون فيها بحقوقهم الكاملة، حيث قيامة الوعي عند قطاعات متزايدة منهم وتفضيلها لأوطانهم الأصلية بالرغم من نداءات “أرض العسل واللبن” والإغراءات الموعودة الكاذبة التي ما زالت تروجها المنظمة الصهيونية العالمية لإعادة تنشيط حركة الهجرة الكولونيالية الاستيطانية الصهيونية باتجاه فلسطين.
علي بدوان* كاتب فلسطيني سوري/دمشق