على أعتاب مئويتها، تبدو اتفاقات سايكس – بيكو كأنها سوف تمحو نفسها بنفسها. وهو أمر محزن تماماً مثل قيامها العام 1916، على أنقاض الاهتراء التركي. تقاسم البريطانيون والفرنسيون رقعاً وبقعاً كانت مقسومة، وحوَّلوها لوحة فسيفسائية مختلفة، موحّدة غير منسجمة. أرض لأقليات خائفة ومتناحرة إرثها الأكبر حروب وتنافر وتباطُن. الكارثة التي ألحقها المسيو بيكو والسير سايكس بالواقع الإنساني العالمي، وليس بهذه البقع المتكارهة والمتربصة، هي إزالة فلسطين، فيما رصّ صف طويل من الدول، بينها “الوطن القومي لليهود”، الذي سوف يحوَّل أقوى دولة في الشرق، بينما عجز العرب (والفلسطينيون) بكل رخاوة وبلادة، عن إقامة مصالحة بين حماس والرحم التي جاءت منها.
فعل فرنسوا جورج بيكو ومارك سايكس، ما يفعله كل من يكلّف وضع خريطة استعمارية: أولاً، المصلحة، ثانياً، مصلحة المصلحة، ثالثاً، حماية المصلحة ومصلحتها، ولكل فريق قطاعه. الهمّ البريطاني كان في الهند، فأخذوا كل ما كان على طريقها. حتى العراق فكّروا في أن يكون سهلاً خصباً يُطعم إمبراطورية دلهي ويكفي تناسل الهنود على الأرصفة وفي الساحات.
ليست الغاية من المقال شرح اتفاق وضعت عنه مئات الكتب في بريطانيا وفرنسا، وبضعة كتب عربية، والباقي صراخ وتهريج وتركيب جُمل. ولكن كان لا بدّ من الإشارة إلى الخريطة الماضية لكي نُدرك مدى تحلّلها الطوعي وبروز خريطة جديدة في الدم والرماد. ظللنا نهتف “بالروح بالدم” إلى أن لم يعد هناك دم ولا أرواح.
لا بدّ أن نتذكّر أنه عندما تحدّث كولن باول، وزير خارجية بوش الأبلق، عن “شرق أوسط جديد”، قامت قيامة الأرض والسماء، فاستنكر مَن استنكر، وشتم مَن شتم، وخطَب في الشعب خطباء الحِرفة.
راجعوا الأسماء. إنهم الذين يحفرون اليوم الشرق الأوسط الجديد، شبراً شبراً. والجنرال باول منهمك في المهنة التي يتقاضى منها السياسيون المتقاعدون أموالهم في أميركا: إلقاء المحاضرات.
لم نكن في حاجة إلى منّة باول، لكي نعرف ما يجري أمامنا: حصى الفسيفساء تتساقط عن حجرها، ويحمل الجرْف كل نوع منها إلى نوعه. في العراق. في سوريا، في مصر. في ليبيا. يُوصلنا ذلك إلى شيء يُدعى لبنان، المسمّى أحياناً الكيان، أو الانعزالي، المتلقّي العِظات والإهانات والحِكم في كيف أن نظامه إستعماري إمبريالي ساقط، المكروه من الأحزاب الكبرى لأنه عائق رهيب في وجه الوحدة الميسّرة التي تنتظر فقط سقوطه لكي تقوم وتتم وتُغنّى لها أناشيد الموالد وزفّات الأعراس.
الغاية من المقال، ليست شرح سايكس – بيكو، بل محاولة شرح تجربة كانت هي الوحيدة في الوحدة في هذا الشرق، شرق سايكس، أو شرق باول، أو شرق جهنم. واليوم في أي حال لم يعد لجهنّم الشرق جهة واحدة.
تحت عنوان “الأقليات” كان لمائة ألف كردي في لبنان نائب في البرلمان. وفي العراق وسوريا كان لـ25 مليون كردي حلبجة وحروب الجبال وتجريد أكراد سوريا من هويّاتهم. في الشرق الجديد، يطبع الأكراد عملتهم في “كردستان العراق”، ويديرون أمن مناطقهم “الذاتي” في سوريا. مُنِع عليهم استخدام لغتهم. مُنِع عليهم البحث في تراثهم وحُظّر عليهم أي نشاط ثقافي خاص. في لبنان خصصت لنحو 200 ألف أرمني مقاعد نيابية، ولهم مدارسهم، ولهم كرسي حَبرية، ولهم أحزابهم، ولهم وزراء، ولهم إحدى أفضل جامعات البلد. وعندما يقيمون احتفالاً تاريخياً، يُعزف النشيد الوطني الأرمني قبل النشيد اللبناني. لا إكراه في الانتماء.
أعطيت “الأقليات” اللبنانية حقوقاً كاملة في التجارة والثقافة والاقتصاد. يشكّل الدروز في العدد نسبة لن نُغامر بإعادة ذكرها، لأن الدول ليست نسبة ولا استنساباً. لكنهم يتمتعون بوجود سياسي قائم على حكمة الوجود لا على معدّل الولادات. ليس هذا وضع الدروز أو الأرمن أو الأكراد في سوريا، التي تزعّمت حركة تدمير النظام اللبناني الهجين، أي البقعة الوحيدة في الشرق، شرق سايكس وشرق باول وشرق جهنم، التي تُعطي حقوقاً مدنية كاملة ومتساوية، لثماني عشرة طائفة، وتُطلق للجميع حرية العمل. لعقود كان حكّام الاقتصاد مهاجرين جدداً.
هذا النظام هو الذي اجتذب فريقين من سوريا ساهما في بناء لبنان الحديث: رأس مال، الهارب من تخلّف التأميم وعَقم الغلْق، والعامل الباحث عن مورد لا تؤمّنه توجيهات الحرس القائد أو الصدور الزاهية بالأوسمة. قبل أن نودِّع الشرق الأوسط القديم، يجب أن تُقال كلمة ما في حقّ هذه الدولة، التي على ضآلة حجمها، احتضنت تجربة تضيق بها بريطانيا، وتختنق بها تركيا اليوم. يجب أن تُقال كلمة في حق بلد واقع في قلب الاحترابات الصدئة ومَقاتل الأساطير والخرافات وتكبّر الأجناس واستعلاء القبائل، ومع ذلك فإن أبا فكرته الرمزية الروحية كان كلدانياً يُدعى ميشال شيحا.
كم شتمَه المفكرون، ميشال شيحا؟ ولماذا شتموه؟ لأنه كان يقول بالأشياء البسيطة في الحياة: الهدوء والبناء والتوافق. هذا كلام ساذج والمطلوب تعاليم تروتسكي وفلسفة هيغل وأرجوك ألا تنسى هيدغر يا فتى.
هل يحتمل هذا البلد كل تلك الجمل الطويلة والمعقدة؟ من غير أن يقرأ كتاباً ايديولوجياً واحداً شرحها فؤاد شهاب بالقول: كهرباء في الجنوب. مستشفى في الهرمل. ديوان محاسبة في بيروت. وضربة عصا على القفا لكل حرامي، المشكلة كانت في العثور على عدد كافٍ من العصي.
لم يكن لبنان في حاجة إلى فلسفة لأن فلسفته منه وفيه. بلد يقع في وسط الشرق من دون أمراض الشرق. ليس دولة دينية مثل إسرائيل، لكنه دولة ديانات ومذاهب وإثنيات. لهذه المواصفات يمكن أن يكون جنة صغيرة ولكن أيضاً يمكن تحويله بشرارة جحيما صغيرا. كان يُفترض أن يقتدي الشرق بهذه التجربة البشرية المتجاوزة للغرائز والآفات، فرفض الشرق إلاّ أن تقتدي به. لن يُسمح لها بعبور القرون إلى الأمام وهو زاحل إلى القرون الوسطى على عربات من نار التخلّف.
ماذا كشفت انتحاريات السفارة الإيرانية؟ لا. ليس لغة للعصر، ما بين مساجد طرابلس ومنطقة الجناح، بل إن سيارات الإسعاف لا تستطيع الوصول إلى أحياء الفقر في المنطقة. لا مكان للشوارع هناك. حتى المشاة يصِلون بصعوبة إلى بيوتهم (ناجية الحصري، “الحياة”، 22 ت2). هؤلاء هم “عرب المسلخ” الذين أصبحوا “عرب السان سيمون”. الفقر، مثل الموت، ليس شيعياً ولا سنياً. العَدَم عابر للطوائف والهويّات. وقد سبق لهذه الظُلمة ان عمّت المناطق المسيحية عندما دكّت الدبابات شرفات البيوت، ونوافذها.
يعيد الشرق تشكيل نفسه من دون كولونيالية بيكو وخبث سايكس. لا ضوابط في الأمر. هياج، والثيران يُشعلها اللون الأحمر. عمى الألوان وغباءة الغريزة. وصلنا إلى وقت نشتُم فيه الوسطية والاعتدال ونحقّرهما، فهل كان هذا ما نريد؟ قبل أن نمضي قُدماً في “الشرق الأوسط الجديد” يجب أن نُلقي نظرة على لبنان القديم. على تلك الفكرة البسيطة القائمة على القبول لا على التربّص. وعلى الحياة معاً لا على الموت والموت المضاد. عندما أتذكر أن مفكراً من الأقلية الكلدانية هو من بسَّط فكرة لبنان، أتذكر أن تقي الدين الصلح لم يُصبح رئيساً للجمهورية، وأن فيليب تقلا لم يكن رئيساً للوزراء، وأن محمد مهدي شمس الدين لم يُكلَّف رئاسة الجامعة اليسوعية.
فات الأوان، وذلك زمن آخر وشرق آخر. الشرق الخارج علينا الآن، لا مكان فيه للآخر. فلسفته قبور بلا مزارات. كان فيديل كاسترو في ذروة سلطته عندما دعا غبرييل غارسيا ماركيز إلى الاحتفال بعيد ميلاده، في قريته، بيران. قال له، منذ زمن لم أضع باقة من الورد على مدفن والدي، يا غابو. ولكن، يا فيديليتو، أنت الشيوعي المُلحد، أمك الثورة وأبوك لينين. آه، صحيح. ولكن كان لي أم وأب قبلهما، هنا في بيران.
الشرق الجديد جنازات عامة ومدافن جماعية. والأمهات يبحثن عن أبنائهن بين الأنقاض، أو يرين صوَر جثثهم مفحّمة على التلفزيون، فيعرفن أنهم لن يعودوا إلى البيت. وفي أي حال لماذا يعودون إلى تلك الاكواخ. والطريق شاقة. ما من شارع أو رصيف. مبروك عليكم الشرق الجديد.
سمير عطالله/شرق جهنم
13
المقالة السابقة