باقتراب نهاية السنة الثالثة على انبثاق الربيع العربي، والسنة العاشرة على غزو العراق، يكون العالم العربي قد دخل عامه الرابع عشر وهو في حالة من التبعثر وعدم الاستقرار، وتحت الضغط والتدخل العسكري الاجنبي لرسم خريطة جديدة للمنطقة، وتحت الضغط الشعبي المباشر لإحداث الإصلاح و التغيير. وهنا قد يكون مفيداً النظر في حصيلة ونتائج هذه الفترة بالنسبة للعرب وكذلك اسرائيل.
فإذا بدأنا بإسرائيل، نلاحظ أنها على مدى الأربعة عشر عاماً الماضية، قد حققت مكاسب استراتيجية هائلة، ربما لم تحلم يوماً بأنها ستتم بهذه السهولة . الأول فك الدولة العراقية، ووضعها على طريق التقسيم إلى (3) دول وتفتيتها من الداخل. والمحرك الرئيسي لكل ذلك يتمثل في الصرعات السياسية الداخلية تحت عباءة الدين والمذهب، والتدخلات السياسية الخارجية التي تدعم فريقاً على حساب فريق. الثاني : تدمير الدولة السورية وتهشيم مفاصلها الاقتصادية والاجتماعية، ووضعها على مفترق طرق التقسيم الطائفي الى دويلات قد تصل إلى (4) دويلات. وهذا هدف استراتيجي اسرائيلي من الطراز الأول.والآلية المثلى لذلك من خلال إطالة أمد الصراع، وتعدد القوى الخارجية المتداخلة، وإصرار النظام على استمراره في الحكم بأي ثمن. الثالث : تدمير الأسلحة الكيماوية التي كانت بحوزة سوريا، والتي كان من الممكن أن تهدد إسرائيل، تمهيداً للقضاء على القوة العسكرية السورية، بما في ذلك فك الجيش السوري، على غرار ما تم في العراق. الرابع: استمرار وتعمق الانقسام الفلسطيني غير المبرر، إلا من منظور الحكم والسلطة. وهبوط ظلال النسيان والاهمال للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. وتهديد الأماكن المقدسة وتوسيع الاستيطان لجعل الدولة الفلسطينية أمراً غير قابل للتحقيق. الخامس: استمرار التوسع الاسرائيلي الاستيطاني وحصار غزة كأمر اعتيادي. السادس: استمرار الصراع من أجل التفرد في السلطة في مصر ولبنان وتونس والسودان واليمن، مما جعل المنطقة العربية ساحة مفتوحة أمام التدخلات الأجنبية و الإسرائيلية غير المباشرة.
لقد كشفت السنوات القليلة الماضية ان العرب مجتمعين ومنفردين، قد أخفقوا في بناء دول مستقرة، عمادها الأول ولاء المواطن للدولة، بدستورها وقوانينها ونظامها وأرضها وأهلها، وليس ولاؤه لحزب أو جماعة أو دولة أخرى أو تمويل خارجي. اخفقوا في بناء دول وانهمكوا بكل امكاناتهم في بناء أنظمة حكم تقوم على دعوى القائد الملهم، والزعيم التاريخي، الذي يستبيح كل شيء في بلاده لتدعيم سلطته وحكمه واعوانه. وما عدا ذلك يحتل أهمية ثانوية. واخفقت الاقطار العربية كمجموعة في بناء كتلة سياسية اقتصادية متماسكة، يمكن أن تؤثر في مجريات الأحداث، ويمكن أن تحول دون التدخل الاجنبي. وفي نفس الوقت يمكن أن تمنع الطغيان الداخلي للحاكم، سواء كان طغيان السلطة أو الحزب، أو طغيان المال أو التفرد أو الاستقطاب أو الالغاء أو الاقصاء، أو الرجوع بالأمة إلى الخلف. إذ لم يكن الالتزام بالديموقراطية أو حقوق الانسان جزء ملزماً في المجموعة العربية. ولم يكن التقدم والعدل الاجتماعي وحقوق المرأة والمهمشين، فصلاً إجباريا للعرب. وليس هناك من مجموعة أو كتلة دولية على مستوى الاحزاب او الحكومات، بدأت حياتها قبل (70) سنة تقريباً وكان منحنى اداؤها يمثل تراجعا في كل شيء تقريبا سوى المجموعة العربية.
ان القوى الخارجية واسرائيل في مقدمتها،قد تتآمر عل كل ما هو عربي، وكل ما هو وطني، ولكن مثل هذه المؤامرات، ما كان لها ان تفلح لو أن العرب فرادى ومجتمعين افلحوا في بناء دول حديثة، وتخلوا عن هذا العشق الجنوني إلى حد المرض للسلطة والرياسة. وفهموا ان الحكم هو تفويض من المجتمع، ليكون الحاكم في خدمة مواطني الدولة لفترة زمنية محدودة، يجب أن يغادر بعدها ويفسح الطريق لمن يأتي بعده مهما كانت عبقريته ونادراً ما يكون. الادارات العربية تحكم الآن كما كانت الدول قبل ألف سنة وأكثر. في الجوهر الحاكم بفعل ما يريد، وفي المظهر يتغير حسب الظروف والضغوط.
وعلى مدى 50 سنة اضاع العرب فرصة النهوض والتقدم، بل انغمسوا في وديان التخلف أعمق واعمق. صحيح ان هناك مظاهر للتقدم ولكنها سطحية ومجلوبة ومشتراة وغير متجذرة. فالفقر تنتشر مظاهره على مساحات أوسع، والبطالة في تزايد لتصل ضعف المعدل العالمي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي نصف المتوسط العالمي، والهجرة من الريف إلى المدينة على أشدها، والعجز التجاري والعجز الغذائي وصل مستويات قياسية، ونقص المياه، ونقص الطاقة (باستثناء الدول النفطية) ونقص المشاريع الكبرى، وغياب التكنولوجيا والانتاج الصناعي فاق كل التوقعات. وفوق كل ذلك رجع العرب (1400) سنة إلى الوراء ليعيدوا إنتاج نزاعات طائفية، وجدالات دينية، وتكفير وتنفير وإرهاب، لم يكن منه شيئا أبدا قبل (100) سنة. الفرق السياسية التي تتستر باسم الدين أصبحت بالمئات، والأقليات التي كانت مهمشة أو مضطهدة أصبحت تشعر ان الفرصة مواتية للوقوف مرة ثانية ،والشخصيات القيادية الوطنية غائبة تماما. فقد عملت أنظمة الحكم على اخفاء وطمس واضعاف كل شخصية قد يكون لها دور لدى الجماهير، ورفعت شعاراً توافقت عليه من أقصاها إلى أقصاها “قمر واحد في السماء”. وهكذا حين اهتزت الأنظمة أو تساقطت، وقعت المجتمعات في حيرة وتشتت، وتصدى للقيادة كل من علا صوته وأحسن مظهره، واستند إلى قوة اجنبية ،أو فرقة دينية، آو مجموعة جهوية، أو كتلة عرقية.
صحيح أننا لا ينبغي ان نتوقع حدوث التغيير بين يوم وليلة، وصحيح أن الربيع قد يمتد لسنوات حتى يثمر. ولكن الخشية دائما من الرجوع إلى الخلف ودخول الخريف. إن الشعوب تتطلع إلى صنع المستقبل الأفضل، والخروج إلى فضاء جديد، أكثر رقيا وإنسانية.. تلك هي المسألة و ذلك هو التحدي أمام القوى السياسية و منظمات المجتمع المدني و العلماء والمفكرين والمثقفين والشباب.
د.ابراهيم بدران/الربـيـع والخريـف.. بيـن العـرب واسـرائيـل
19
المقالة السابقة