طالما أن بشار الأسد موجود ومستمر في جرائمه، ستكون سورية «مغناطيساً» لجيل جديد من «الجهاديين» العرب. بالطبع لا يريد رجل الأمن العربي حالاً كهذه، ولكن يجب أن يعترف بعجزه عن وقف سيل الراغبين في اللحاق بركب الجهاد في سورية، فما العمل؟
قبل الإجابة عن ذلك لنتعرف إلى هؤلاء الجهاديين الجدد. إنهم شباب في أوائل العشرينات وحتى دون ذلك، لا يزالون على مقاعد الدراسة، يعيشون وسط أبوين وإخوة من كل الطبقات الاجتماعية، عاديون، وليس بالضرورة أن يكونوا شديدي التدين، ولا تنم تصرفاتهم عما ينوون فعله، بل هم لم يتوقعوا ما أقدموا عليه، ولكنهم يتعرضون لامتحان قاس منذ عامين ونصف، وهم يشهدون على شاشات القنوات الإخبارية المعروفة، ويسمعون في المجالس، ويتابعون في وسائط الإعلام الاجتماعي، الفظائع التي ترتكب في سورية ضد شبان مثلهم، وشابات مثل أخواتهم، ونساء ورجال محترمين مثل والديهم، ثم يتابعون تصريحات المسؤولين العرب والأجانب التي تندد بهذه الجرائم ولكن لا توقفها، والمؤتمرات التي تعقد، والمبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي الذي يصرح هنا وهناك، والرئيس الأميركي أوباما الذي يتخلى عن معاقبة بشار الأسد في آخر لحظة بعدما تجاوز الخط الأحمر الذي رسمه بنفسه، وهو استخدام السلاح الكيماوي، ففعل بشار ذلك، وقتل نحو ألفي سوري كثيرون منهم أطفال في سن إخوتهم الصغار، وسمعوا دعاء جداتهم على بشار فقالوا في أنفسهم: «لا بد من أن نفعل شيئاً آخر مع الدعاء».
يتذكرون ما سمعوه من معلميهم عن فضل الجهاد، فيسترجعون الحديث الشريف: «من مات ولم يغز أو يحدث به نفسه، مات على شعبة من شعب النفاق». أحدهم يمد يده إلى جهاز «الآيباد» الذي أهدته إياه والدته قبل أسابيع، ويكتب في صفحة «غوغل»: «أرغب باللحاق في الجهاد في سورية»، فتمتلئ الصفحة التالية بالإجابات، ويمضي ساعة يقرأ الردود في «إجابات غوغل»، البعض ينصحه بالتبرع لهم فهم ليسوا بحاجة للرجال، وآخر يقول له: سافر إلى تركيا ثم توجه نحو إحدى المدن الجنوبية وابحث عن السوريين هناك فستجد من يدلك. يخرج من صفحة «إجابات غوغل» إلى مواقع أكثر تخصصاً مثل «منبر التوحيد والجهاد» ليجد بحوثاً فقهية أعمق، وإجابات عن أسئلة لاحقة شغلته، أهمها ما إذا كان ملزماً بالاستئذان من والديه، ليجيبه شيخ لا يعرفه – اسمه أبوالمنذر الشنقيطي – بأنه غير ملزم بذلك في حال «الجهاد المتعين». ولكن ما هو «الجهاد المتعين»؟ يسأل الفتى نفسه وقد أخلد كل من حوله في البيت إلى النوم، وهو وحده ساهر يبحث في فقه الجهاد برفقة «غوغل». يجد الإجابة بأن ما يحصل في سورية «من جهاد الدفع المتعين على كل قادر من المسلمين». يستمر صاحبنا في الإبحار وسط فتاوى الجهاد، فهذا مصطلح جديد يقابله «جهاد الدفع»، ومنه يتعرف إلى أنواع الجهاد وشروطه، ويستغرق في نقاش حول استئذان ولي الأمر، والراية العمية، ويتعرف إلى شيوخ لم يسمع بهم من قبل، مثل الطرطوسي والنقيب والحويني، ويجد فتاوى لكبار العلماء السعوديين كالشيخ صالح الفوزان تحض على الجهاد وترغب فيه، ولكنها تشترط إذن ولي الأمر، واستئذان الوالدين، وأن يكون الجهاد تحت راية إمام شرعي، ولكنه يجد من يرفض ذلك ممن لا يعترف بشرعية أي من ولاة الأمر. ينقذه أذان الفجر من هذه الأفكار والفتاوى المتعارضة.
يغلق جهازه وعينيه، والأذان لا يزال يحيط به ويستدعيه، وكذلك مناظر القتل تحيط به، ثم فجأة يرى زعيم «حزب الله» حسن نصرالله يخطب في أنصاره أن قواته ورجاله باقون في سورية. كان ذلك آخر ما رآه على نشرة الأخبار مع والده في الليلة الماضية. يشعر بالغضب، ولكن يلملم شتات فكره ويترك سريره ليتوضأ ويتوجه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر.
آخر مرة فعل ذلك كانت في رمضان الماضي. في المسجد يراه عمه، فهو جارهم، يبتسم له ويحييه، وفي ضحى اليوم التالي يتصل العم بوالده ويقول: «ما شاء الله، حمد صلى معنا الفجر اليوم، ليست عادته، انتبه عليه»!
سيجد صاحبنا طريقه للجهاد، وربما يجد أول الخيط في مدينته، وقد يغامر ويبحث عنه في تركيا أو الأردن، ولكنه سيجده في النهاية، فثمة شبكة نشطة تحت الأرض من خلال الإنترنت والاتصال المباشر، ولكنها تؤدي إلى عنوان واحد هو «القاعدة».
ربما الحل في خلق عنوان آخر، فالجهاد ونصرة الشعب السوري ليسا بالفكرة الخطأ ابتداء، ولكن وجود «القاعدة» هو الذي جعل الحكومات المتعاطفة مع الشعب السوري تحجم ليس فقط عن السماح لأبنائها بالالتحاق بالعمل العسكري، بل حتى عن العمل التطوعي وفي الإغاثة التي يمكن أن تستوعب كثيراً من الشباب المتحمس. تجربة أفغانستان في الثمانينات كانت ناجحة على رغم كل التشويش الذي يمارسه البعض عليها الآن، وأقول ذلك عن تجربة ومعرفة، فلم ينحرف مسارها إلا بظهور التيارات التكفيرية والجهادية التي ظلمت «السلفية» بالانتساب إليها، وجلّ من شارك في تلك المرحلة عاد إلى وطنه آمناً معتدلاً، وحظوا بسمعة طيبة. إنهم جهاديون، ولكن كما ينبغي أن يكون المجاهدون من دون شطط أو غلو، يحترمون حكوماتهم ونظامها العام. لقد أصبحوا «كهولاً» ذوي وقار، ويمكن أن يكون لهم دور في مشروع كهذا، إذ يستطيعون أن يحتووا هؤلاء الشباب ويحموهم من الانحراف والوقوع في فخاخ «القاعدة»، بل ربما يستطيعون وبدعم من العلماء أن يفتحوا حواراً مع القوى المعتدلة في «القاعدة» مثل «جبهة النصرة»، والتي تبيّن حتى لها شطط التطرف في ما تفعل «داعش»، ليعيدوهم إلى المساحة الوسط التي تسعنا جميعاً، فتكون جولة أخرى في الحرب على الإرهاب بمواجهة فكرية تساعد في تفكيك بنية «القاعدة» الفكرية.
لا يتطلب مشروع كهذا الإعلان عنه، ولا يحتاج إلى تمويل، فهو قادر على تمويل نفسه، وتكفي رعايته من بعد وغضّ الطرف عنه، ثم مراقبته مثلما فعلنا في أفغانستان، ولا يقولن أحد هذه «أفغنة» لسورية، فـ «الأفغنة» حصلت وقطعت شوطاً بعيداً فيها.
نعم إنها فكرة مجنونة، ولكن: أليس كل ما يحصل في سورية مجنون؟
* كاتب وإعلامي سعودي