إن ارتباط الإنسان بالمكان، وارتباط الإنسان بالإنسان، تعميرًا وبناءً، وانتماءً وولاءً، واحترامًا وتقديرًا، وعلاقةَ تآلفٍ وتآخٍ وتلاحمٍ وتراحمٍ وترابطٍ وتعاونٍ وتكافلٍ، هو ارتباط شكل منظومة الحياة، وحين تتكامل تلك المحددات فإن الحياة تكون لها خصوصيتها وفرادتها، وتعطي التاريخ فرصته ومساحته وحريته اللازمة لأن يخط على صفحاته أحداث ذلك الارتباط بمداد الشفافية والوضوح والصراحة والوضوح، وليرسم لوحات تاريخية خالدة ناصعة، تعانق فيها الكلمة الحدث رسمًا ومعنًى.
ذلك الارتباط من خصوصيته وفرادته أن صنع حضارة عمانية منذ آلاف السنين امتازت بأنها حضارة متجددة ومؤثرة ومتواصلة وخلاقة، كان اسمها بترجماته المختلفة لدى الحضارات القديمة دليلًا على ذؤابة عليائها، وذرى شموخها، حيث شكلت على امتداد التاريخ مركزًا حضاريًّا نشطًا تفاعل منذ القدم مع مراكز تلك الحضارات في العالم القديم، وكانت للتاريخ حريته التامة في تدوين كل مفصل من مفاصل الحضارة العمانية.
وما يبعث على الفخر اليوم أن على هذه الأرضية انطلقت مسيرة النهضة العمانية الحديثة بقيادة ربان سفينتها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ، متسلحة بمقومات القوة الضرورية لبناء حاضر مزدهر يربط بين تراث وأصالة الماضي العريق وآفاق وطموحات المستقبل المشرق. وفي مقدمة هذه المقومات القيادة التاريخية الواعية، والشعب العماني الذي صنع حضارته بيده والموقع ذو الأهمية الحيوية في تفاعل عميق بين إرادة الإنسان، قيادةً وشعبًا، وأهمية المكان، وبما يجعل العطاء الحضاري العماني متواصلًا ومتجددًا في الحاضر كما في الماضي، وكما سيكون في المستقبل.
إن الحرية الشاملة التي أطلقتها النهضة المباركة، والمساحات الواسعة التي أفردتها لحركة بناء الإنسان والوطن وتقدمهما وتطورهما، جعلت التاريخ هو الآخر يأخذ حركته الطبيعية وحريته في تأريخ الأحداث والمنجزات، بل إن هذه المنجزات والمكتسبات لعصر النهضة المباركة على امتدادها، والزخم الذي اكتسبته السياسة العمانية على مستوى المحافل والقضايا الدولية، والصيت الواسع لحكمة القيادة، أعطى كل ذلك للتاريخ نكهته وحضوره اللافت.
إن مناسبة الاحتفال بالثامن عشر من نوفمبر من كل عام هي مناسبة لها وقعها في القلب ورنينها في حناياه، ولها حضورها في الوجدان والنفس لا سيما حين يستحضر المواطنوان المقارنة بين الماضي والحاضر وقد باعدت الأيام وتحدياتها وظروف الحياة وصعوباتها بين بعضهم، ليجدوا أن الثامن عشر من نوفمبر والثالث والعشرين من يوليو ليسا مجرد صفحتين في روزنامة الأيام.
وبعيدًا عن محاولة كنز المناسبة الوطنية الغالية بمنثور الكلام دون التركيز على وهج المعنى الذي يتلألأ ضياؤه في سماء السلطنة، فلا بد من الإتيان على شيء من تجليات أسرار العبقرية لدى جلالة قائد مسيرة النهضة المباركة ـ أيده الله ـ في تشييد الدولة العمانية وترسيخ أركانها وقواعدها من خلال الارتكاز على حشد كل طاقات الوطن التي تشمل الإنسان والموارد، وترسيخ أواصر الوحدة الوطنية بكل ما تعنيه من قوة وتماسك وتعاضد وترابط بين أبناء هذه الأرض الطيبة، وتحقيق الشعور العميق بالأمن والأمان في كل ربوع الوطن، وتعميق مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، وترسيخ مبدأ الشراكة الفعلية الحقيقية، لذلك انطلق الإنسان العماني إلى عمليات الإسهام في التنمية والبناء بكل طاقاته وقدراته مطمئنًا على حاضره ومستقبل أبنائه.
وفي إطار تلك الثوابت جاءت الأوامر السامية من لدن جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بتوحيد جدول الدرجات والرواتب لموظفي القطاع المدني بوحداته وهيئاته ومؤسساته والعمل به ابتداءً من تاريخ 1/1/2014م، مع مراعاة عدم الإضرار بأي موظف يتقاضى راتبًا أعلى من الراتب الذي سيقرره الجدول الجديد، وكذلك بتوحيد منافع التقاعد والتزامات المستفيدين تجاه صناديق التقاعد، وذلك وفقًا لنظام التقاعد الخاص بموظفي ديوان البلاط السلطاني. ومما لا شك فيه أن هذه الأوامر لم تؤكد مبدأ العدالة والمساواة وترسخه فحسب، وإنما من شأنها إطلاق محركات الطاقات وإعطاؤها لوازم الحركة.
يبقى القول، إنه وفي ميزان النتائج وما تمخضت عنه رحلة البناء في عامها الثالث والأربعين، فإن لارتباط الإنسان والمكان، وارتباط الإنسان بالإنسان، رمزيته وكينونته وخصوصيته في تحقيق الحياة الكريمة تنظيمًا وانسجامًا وتفاعلًا وتدافعًا واستقرارًا.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com