موسكو تبدي تحركًا ديبلوماسيًّا مرنًا ونشطًا وهادفًا، ليس على محور جنيف 1 و2 والأزمة السورية فقط، بل في مصر والعراق وإيران واليمن، وحتى مع السعودية من خلال غزل خجول في السر والعلن حتى لا تغضب الولايات المتحدة الأميركية من حلفاء لها أو تشك بهم.. وهذا القطب الروسي الذي كان يقول عنه أهل الظاهرة الكلامية في المعارضات السورية: “إنه سيخسر الشعب العربي والدول العربية نتيجة موقفه من الأزمة السورية ودعمه للنظام، واستمراره بتوريد السلاح للدولة السورية..”، يحقق على العكس من ذلك كله استقطابًا رسميًّا وشعبيًّا عربيًّا ملحوظًا لمصلحته، وتزداد علاقاته الرسمية السياسية والاقتصادية والعسكرية مع بلدان عربية مهمة ومؤثرة مثل مصر قوة وسعة ومتانة، ستبلغ حد التوجه الفعلي نحو عقد شراكة استراتيجية في بعض المجالات الحيوية. وتسعى روسيا الاتحادية بمثابرة وعزم ومرونة وذكاء لاستعادة مكانتها كمصدر للسلاح إلى مصر، وربما يصبح الوضع كما كان عليه قبل عقود من الزمن، حين كانت المصدر الرئيس للسلاح إلى مصر، ذلك الذي حقق به الجيش المصري العبور العظيم.
وتأخذ روسيا الاتحادية اليوم مكانها بوصفها رأس قطب دولي مهم يقف حيال القطب الأميركي في السياسة الدولية وينازعه أو يشاركه الحضور والقرارات والمواقف والسياسات في مواقع وقضايا ومحافل دولية، وتعمل على أن تستعيد ما كان عليه الاتحاد السوفييتي السابق من مكانة ومواقف وعلاقات في الأمم المتحدة والعالم شيئًا فشيئًا، بفضل دورها ومبدئيتها ومواقفها من الأزمة السورية التي أصبح لها أبعاد دولية ملحوظة، وتفعل روسيا ذلك من خلال شراكات وتحالفات جديدة: اقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية بطبيعة الحال، تقوم بها مع دول ذات امتداد جغرافي كبير، وتعداد سكاني هائل، وقوة اقتصادية مؤثرة عالميًّا، وتنوع عرقي وديني وثقافي يغني المشهد الحضاري.. منها دول منظومة “بريكس” التي تضم إلى جانب روسيا الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، ومن التكتلات أو المجموعات التي تقيم معها روسيا شراكات أو علاقات مؤثرة: مجموعة شنغهاي العملاقة، ومجموعة الدول التسع المكونة لمجموعة ـ “ألبا” في أميركا اللاتينية، وهي حاضرة بقوة في تجمعات دولية مثل: “تجمع دول شرق آسيا والمحيط الهادي AIPEC”، ولها علاقاتها مع دول عدم الانحياز و”الاتحاد الإفريقي” والتكتل الاقتصادي/ ميركوسور/ في أميركا اللاتينية.. هذا إضافة إلى ما يبدو أنه محور جديد مهم قيد التشكل في الشرق الأوسط يضم سوريا والعراق وإيران ومصر والمقاومة العربية ضد الاحتلال الصهيوني وضد النفوذ الإمبريالي الأميركي، لا سيما المقاومة في لبنان وفلسطين. وروسيا الاتحادية تعزز حضورها وقوتها أيضًا بمرونة من خلال العلاقات الثنائية حتى مع اليابان، على الرغم من التنازع المستمر بينهما منذ الحرب العالمية الثانية حول العائدية السيادية على جزر “الكوريل الجنوبية”، أو “جزر المناطق الشمالية” كما تسميها اليابان في المحيط الهادي.. أما الجهد الذي تبذله موسكو لإقامة تحالف نوعي فهو سعيها لإقامة “الاتحاد الأوراسي” الذي تسعى إليه سعيًا حثيثًا، وقد أقامت على طريقه علاقات استراتيجية متينة مع الصين والهند، ووقّعت على طريقه اتفاقيات منها: “اتفاقية الأمن الجماعي بينها وبين أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأوزبكستان.” تلك الاتفاقية التي قال الرئيس فلاديمير بوتين عند توقيعها: “إنه المستقبل الذي يولد اليوم”.. كما اتخذت بصدد ذلك خطوات تطبيقية مهمة منها ما سماه الرئيس بوتين: “الفضاء الأوراسي المشترك” بين بيلاروسيا وكازاخستان وروسيا حيث “.. ستلغى التأشيرات بين هذه البلدان بعد أن ألغيت الإجراءات الجمركية، وسيتم لاحقًا اعتماد عملة موحدة.”.. و”الاتحاد الأوراسي ليس أي قطب، إنه قطب كاسح للهيمنة الأميركية في العالم” كما يرى ساسة ومحللون ومتابعون مدققون.. ويضاف إلى تلك الشراكات والعلاقات العلاقة الجيدة التي لها مع تجمع دول شرق آسيا والمحيط الهادي AIPEC، والاتحاد الإفريقي، ودول عدم الانحياز.. إلخ.
وكانت الأزمة السورية وما زالت أكثر الأزمات والمواقع والمجالات دفعًا لتبلور القطب الثاني في السياسة الدولية، وعلى رأسه روسيا والصين بصورة خاصة، بعد أن استفردت الولايات المتحدة الأميركية بالعالم وقراراته منذ عام 1991.. وتقوم روسيا بجهد خاص لاستقطاب دول ومنظمات دولية حول الحل السلمي للأزمة السورية، وتقف بقوة ضد التدخل العسكري في الشأن السوري، ذلك الذي عمل من أجله المعارضون وجامعة الدول العربية والأميركيون والأوروبيون الاستعماريون وأعضاء حلف شمال الأطلسي.. وهي تفعل ذلك ليس من أجل سوريا والنظام فيها فقط بل دفاعًا عن مصالحها، وعن نفسها خوفًا من انتشار النار إلى مناطق من آسيا الوسطى ومن ثم إلى عقر دارها، وتفعله، كما تعلن ولكن، التزامًا منها بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وبمواقف مبدئية في العلاقات الدولية لا تجيز تدخل أحد في الشؤون الداخلية والسيادية للدول، مستندة حجج ووقائع وأفعالا كارثية تمت في العالم، وفي الشرق الأوسط خاصة من بين بلدان العالم، يتضمنها سجل الجرائم الأميركية ـ الأوروبية التي تمت في ظل استغلال وتحريف قرارات مجلس الأمن “ليبيا مثلًا”، أو في خروج صارخ على عليها وعلى الميثاق الأمم المتحدة، كتلك التي ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان والعراق.
وفي مسار الأزمة السورية والبحث عن حل سياسي ـ سلمي لها دعت روسيا الاتحادية المعارضات السورية في أكثر من مناسبة، إلى لقاءات مع ممثلين لها في موسكو أو جنيف أو في أي مكان من العالم، لبحث سبل الحل لأزمة تجاوزت في خطورتها وكارثيتها ومآسيها التي لحقت بالشعب السوري كل حدود التوقع والتصور والاحتمال، وما زالت تنذر بالأخطر والأرهب، إذا لم يوضع لها حد، وما لم يتم البحث الجاد المسؤول عن حلول سياسية لها حيث لا حلول عسكرية.. لكن معارضات سورية بعينها وعناصر متطرفة فيها لا يعنيها الدم والبؤس البشري ودمار الأوطان واشتعال نار الفتنة عربيًّا وإسلاميًّا.. قدر ما يعنيها إشباع تورم ذواتها المرضي، ومكاسبها المادية “المالية على الخصوص” و”المنفخة الثورجية” التي تعلنها باسم شعب ضاق بكل التجار والتجارات والسياسات والثوريين والثورات وبكل من يتحدث باسمه، ووقف على حافة الموت ينشد لنفسه وأطفاله الرغيف والأمن، ولموتاه القبور قبل أن تنهشهم الكلاب في الطرقات والمزارع والحقوق والبوادي.. وبقيت معارضات وعناصر متطرفة فيها، وأهل “حماسة” من الطرفين الحاكم والمعارض لتحقيق “نصر؟!” بحسم عسكري، “نصر!؟” على الوطن والشعب والحق والعدالة والحرية وكل القيم الإنسانية والدينية والسياسية السليمة.. بقيت تلك العناصر ترفض حتى مجرد الحوار والتفكير بإلقاء السلاح وتحكيم العقل واللجوء إلى الحلول السياسية.. وكانت تلك العناصر تقود تلك المعارضات إلى معاداة كل من يقول بغير النار والدمار والاقتتال حتى الإفناء..؟! كما كانت تقول برفض تدخل روسيا ونداءاتها وتتهمها، ولا يلفظ المتشنجون فيها اسم روسيا من دون أن يقرنوه بالعدو أو المجرم أو غير ذلك من الكلمات.. وعلى الرغم من ذلك لم تتوقف موسكو عن المحاولات، ولم تنفض يدها من تلك المعارضات، ولم تتخذ أي موقف متشنج ضدها أو ضد مموليها وحماتها وضد أشخاص منها قالوا بحقها ما لا يرقى إلى درجة من الوعي والمسؤولية وحتى أدب الكلام.. استمرت موسكو في العمل مع شركاء دوليين لا بد من العمل معهم، على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، للتوصل إلى حسم الخيارات بصورة ثابتة وواضحة، بعيدًا عن ازدواجية المعايير والنفاق السياسي والسياسات الملغمة، والمواقف المتلونة والكلام ذي الوجهين.. فكان أن انتصر خيار الحل السياسي ـ السلمي وفق مرجعية جنيف 1 ونتائج جنيف 2 وانهزم الحل العسكرية، لأنه لا يوجد حل عسكري لهذه الأزمة التي تحولت إلى كارثة على سوريا الوطن والشعب، وهددت دولًا وشعوبًا، وذرت قرن الفتنة في أنفس وقرى وأحياء ومدن وبلدان، وبعثت مرضى الأنفس ومريض التوجهات، وأشاعت رعب الإرهاب ومخاطر الأمراض وجائحات الجوع والتوجهات نحو نوع وحشي من العنف والحقد والممارسات الفاجعة.
وقد نجحت روسيا أخيرًا في جعل المعارضات المتشنجة تُفبِل على الحوار معها، وذلك بعد أن استقر الموقف الدولي على الحل السياسي بجدية، يدعمها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118. وبعد إعلان بعض المعارضات عن موافقة على حضور جنيف “مشروطة بشروط قد تكون ذات مرتسمات تحقق لاحقة، ولكن لا يؤخذ و لن يؤخذ بها قبل الاتفاق على ما يتم الاتفاق عليه في جنيف2”.. وفي هذا السياق عقد اجتماع في اسطنبول بين جاتيلوف وبعض المعارضين من الائتلاف، وأعلن بعده عن اجتماع لرئيس الائتلاف في موسكو مع المسؤولين الروس.. وتلك هي المرة الأولى التي يتم الإعلان فيهاعن اجتماع معلن في موسكو من هذا النوع.. وأقدر أن ما كانت موسكو قد أبدت استعدادًا لفعله من عقد اجتماع غير رسمي أو غير ملزم، لوفد “وفود من المعارضة” المعارضات السورية وآخر يمثل الجانب الرسمي السوري في موسكو، للتداول في موضوع مؤتمر جنيف 2 قد حان وقته، وأنه سيكون في موسكو إبان وجود رئيس الائتلاف فيها، وفيما أقدر أيضًا أن الحديث الذي جرى بين الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد يوم الخميس الـ14 من نوفمبر 2013 تضمن شيئًا ما يتصل بهذا الموضوع بالذات، حيث أُعلن عن تشكيل وفد سوري يسافر إلى موسكو، ربما يوم الاثنين القادم، للبحث في “ترتيبات المؤتمر”، وأضيف هنا” وفي أمور أخرى”.
وإذا تم هذا بنجاح تكون روسيا قد فتحت نوافذ للحوار/التفاوض بين طرفي الأزمة السورية في موسكو تطل منها على جنيف، وجعلت المعارضات ذات المواقف المتشنجة ضد الحل السياسي وضدها التي كانت ترفض الذهاب إليها.. تخفف من تشنجها وغلوائها وتذهب إلى هناك، وتحاور بإشراف موسكو أو بواسطتها، وتمضي بشيء من الهدوء والثقة والمسؤولية إلى جنيف2 بهدف التفاهم والتوصل إلى حلول سياسية للأزمة، وليس للتمترس في مواقع ما فوق “فضائية” تراشِق منها الآخرين بالكلام والتهم وربما “بالضربات على الوجه” كما حدث بين بعض أعضاء الائتلاف في الاجتماع الأخير في اسطنبول، مما له سوابق عبر تاريخ المعارضات السورية، لا سيما في القاهرة وبعض العواصم الأخرى. وإذا تم شيء من هذا القبيل، بعرقلة من أطراف عربية أو غربية أو أطراف أخرى، ولا سيما من ممثل الكيان الصهيوني في فرنسا الوزير من أصول يهودية لوران فابيوس، فسيكون مستهجنًا ومكشوفًا ومدانًا، ولكن تكون قد تمت خطوات تمهيدية مهمة على طريق الحل السياسي، يكون فيه فضل ودور كبيران لموسكو ولكل من عمل بصدق ونوايا حسنة لحقن الدم السوري ووضع حد للمأساة بكل أبعادها الوطنية والقومية والإسلامية والعالمية والإنسانية.
علي عقلة عرسان كاتب وأديب سوري