لا يهمّ ما يقوله فلاديمير بوتين وباراك أوباما، أو علي خامنئي وحسن نصرالله، أو الأخضر الإيراهيمي وميخائيل بوغدانوف… ولا ما يفعله عسكريو قاسم سليماني وعناصر «حزب الله» وميليشيا «أبو الفضل العباس» المستوردة من العراق بموافقة نوري المالكي… ولا انضواء أيمن الظواهري تحت اللواء الإيراني ولا «مسخرة» محاولته التحكيم بين مقاتلي «داعش» و «النصرة» بعد انكشاف ولاء «القاعدة» للنظامين السوري والإيراني… ولا أن يجلس الديبلوماسيون مع أعضاء «الائتلاف» ليضغطوا ويحصلوا على مشاركتهم في «جنيف – 2»، ولا أن يتنادى «المعارضون/ الموالون» أو أنصاف المعارضين والموالين لتشكيل، أو للإيحاء بإمكان تشكيل، «ائتلافات» أخرى…
فالنظام وحده يعرف أن أزمته ليست مع الإرهابيين الذين صنعهم في سجونه، وإنما مع سوريين لا يزالون صامدين في وجهه، متحدّين وحشيته ورافضين نهايةً المحنة إلا بنهايته. هؤلاء الذين استدرجهم إلى حمل السلاح ضدّه، آملاً في سحقهم، صاروا هم النواة الصلبة لسورية ما بعد الأسد. يتحمّلون أقسى المعاناة وأكثر ظروف العيش بدائية، بلا ماء ولا كهرباء ولا طعام ولا حلفاء أو «أصدقاء»، وكلما أدركوا أن التضحية المطلوبة أكبر مما توقعوا عصت إرادتهم على الكسر. هؤلاء لا يراهنون إلا على القوة المنبثقة من ضعفهم، بل إنهم الرقم الصعب الذي يتعذّر تصريفه في تسويات كيري – لافروف. ويخطئ من يعتقد أنهم غير منضبطين ومنظّمين، فلو كانوا فوضويين لما استطاعوا الصمود ولكان «الشبيحة» وجواسيسهم تمكّنوا من تصفية جميع نشطائهم المدنيين والمتعسكرين إذ لا يمضي أسبوع إلا ويُخطف واحدٌ منهم أو أكثر ليعودوا جثثاً مشوهة أو لا يعودون أبداً. هؤلاء هم الشعب الذي يضحّي من أجل كرامته وحريته، أولادهم وعائلاتهم يعانون أيضاً في منافي النزوح. وهؤلاء، لا «داعش» ولا «النصرة» ولا الأكراد «الأوجلانيون»، هم الذين صنعوا ويصنعون معادلة المواجهة مع النظام وحلفائه، وهم الذين سيعطون شرعيةً لأي «حل».
أصبح محسوماً، بالنسبة إلى نظام بشار الأسد، أن الأمر الواقع الذي فرضه بالحديد والنار لن يأتيه بالحل الذي يناسبه، لا من جنيف ولا من غيره، تحديداً بسبب الأمر الواقع المضاد الذي أقامه معارضوه. وعلى رغم أن مكانه محجوز في «جنيف – 2» لتمثّله حكومته إلا أن هذا لا يكفي لطمأنته، فثمة اتصالات غير مريحة يجريها الأميركيون والروس (مع «معارضين/ موالين» ومنشقّين وأنسباء خائفين من العائلة وخصوم ناقمين داخل الطائفة…) تشي بأنه (الأسد) لم يعد وارداً في البحث عن البديل أو البدائل. وفيما توحي هذه الاتصالات أيضاً بأن الثنائي الأميركي – الروسي يحاول بناء أي سيناريو ما لإطلاق «جنيف – 2» في حضور الراغبين في التفاوض، إلا أن هاجسها الأول هو استكشاف وجوه ومطابقتها لمواصفات محددة بغية تركيب صيغة «سلطة انتقالية» تضم موالين مقبولين ومنشقّين ومعارضين.
كيفما ارتسم هذا السيناريو، أصبح مفهوماً أنه سينهي حكم العائلة وتسلّط الطائفة أو «سلطة الأقلية» وأنه يهجس بدايةً بإقامة منظومة لـ «حماية الأقليات». صحيح أن الثورة لم تُسقط النظام بعد، إلا أنها سلّطت الضوء على الظلم والاستبداد، وصحيح أن النظام لم يخمد الثورة، إلا أن ولغه في كل المحرمات الإنسانية والأخلاقية انتهى إلى تصديع التماسك الاجتماعي وتظهير المسألة الطائفية. وما كان يُخشى نظرياً بات يقلق واقعياً بسبب كل هذا الدم المراق على وقع مجازر وإعدامات ميدانية وعمليات تطهير وتهجير طائفيين لـ «تنقية» المناطق ورسم حدود بين مكوّنات المجتمع إذا كان لها أن تواصل «العيش معاً» في هذا البلد. منذ الأيام الأولى كان «شبيحة» النظام سبّاقين في أعمال القتل والتنكيل والاعتقال والتعذيب إلى استحضار الخلفية الطائفية للصراع بمختلف رموزها، أما اليوم فلم يعد هذا الاستقطاب البغيض خافياً على أحد، وإنْ أستمرّت النخب ترفضه وتأنف من الانزلاق إليه. غير أن الدوائر المهتمة في مختلف العواصم أدركت منذ أواخر 2011 أن عدم استجابة النظام سريعاً لموجبات التغيير وضعت تعايش الطوائف في مهب الريح.
بعدما فشلت القوى الدولية في ردع اعتداءات النظام على الشعب، وفي تأمين «حماية المدنيين»، لم تجد سوى الاستدارة نحو المعارضة لتطلب منها تعهدات وضمانات لعدم التعرّض للأقليات. كانت الوزيرة هيلاري كلينتون ألحّت على ذلك كأحد الشروط لدعم «المجلس الوطني» آنذاك، كما أن مراجع أوروبية كثيرة تحدثت بالمنحى نفسه مشيرة إلى أن الطابع «الإسلامي – الإخواني» يطغى على المعارضة. ثم تكررت الممطالبة مع «الائتلاف». وفي المرحلة الراهنة، بعدما توغلت الأزمة في الدم والانقسام الطائفي، تريد القوى الدولية معالجة عجزها بدفع ائتلاف المعارضة إلى محاورة القتلة علّهم يتنازلون لها عن بعض حقائب في حكومة يديرونها بالإرهاب والتهديد.
لم يكن المجتمع السوري طائفياً، ولم يكن للنظام أي فضل في ذلك سواء بـ «علمانيته» المزعومة أو بـ «عدالته» التي تساوي بين الجميع وتحترم المواطنة، وإنما لأن التقلبات التاريخية صاغت إسلاماً سورياً وطنياً/ قومياً معتاداً على وجود «الآخر». على العكس كان دور النظام سلبياً في لعبه على التناقضات الطائفية وصولاً إلى تكريس حكم العائلة وسلطة الطائفة الواحدة، مستخدماً حزب البعث لاكتساب سمعة «قومية» ومشترياً الولاءات بالفساد والابتزاز والترهيب. وكما في حال نظام صدّام حسين، كذلك في حال نظام الأسد بل أسوأ، كان من الطبيعي أن يؤدي السقوط إلى إبراز النعرات الطائفية والاجتماعية، وأن يبدو الاعتراف بهذا الواقع الانقسامي واقعياً، بل حتى أكثر «رحمةً» على رغم ما سيترتب عليه من خيارات وتدابير وتسويات. وإذ لا يزال نظام الأسد يدّعي أنه يريد «حلّاً سورياً»، فإنه ألغى أي حل لا يضمن له البقاء، وألغى أية مقوّمات لـ «حل سوري» باعتماده على روسيا وإيران اللتين تستخدمانه درعاً بشرياً وسياسياً للدفاع عن مصالحهما. للأسف، إذا وجد الحل فلن يكون سورياً. فهناك من باشر طبخه في الخارج.
منذ الأيام الأولى لمهمة كوفي أنان، وبالتزامن مع إعلان نقاطه الست التي لا تزال في صلب بيان «جنيف – 1»، كانت الاقتراحات الاستباقية الموازية التي قدّمت إليه من خبراء سوريين (في شأن مرحلة البحث عن الحل السياسي بعد تثبيت وقف العنف وتطبيع الوضع الأمني) بدأت تعترف بأن البحث عن شخصيات من داخل النظام يقود فقط إلى الأمنيين من أبناء طائفته الذين كان انتماء واحدهم يكفي لجعله الوزير «الحقيقي» حين يكون وزيره من طائفة أخرى، وهو ما كان سارياً أيضاً في مختلف القطاعات عسكريةً أو مدنية وعلى كل المستويات. وانطلاقاً من هذا الواقع طُرحت صيغٌ لـ «حكومات» ظهر فيها حرص على توزيع طائفي للحقائب، إذ صارت الأولوية لـ «طمأنة» الطوائف والأقليات عبر مشاركة وجوه منها في أي حكومة انتقالية. وعلى رغم أن مصادر النظام أو المعارضة لا تعترف بهذه الحقيقة، إلا أن الاتصالات الأخيرة في جنيف (مع قدري جميل ورفعت الأسد ومناف طلاس وغيرهم…) أشارت إلى أن الأميركيين والروس الذين سيصنعون «الحل» عملياً يحاولون اختيار مرشحين وفقاً لموجبات «الطمأنة»، كأن يكونوا ممن خدموا في النظام وابتعدوا عنه بالانشقاق أو حتى بـ «معارضة صوَرية» من داخله، وأن تكون لديهم خبرة واستعداد لخوض التجربة الانتقالية الصعبة التي لا بدّ من أن تتناول إعادة هيكلة الأمن والجيش. هناك آخرون مثل وزير الدفاع السابق علي حبيب الذي غادر قبل بضعة شهور ولم يظهر في الإعلام، كما أن رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب لا يزال في الصورة، وفي الوقت نفسه يجرى درس الكثير من وجوه المعارضة الحقيقية.
وحتى النظام الذي استشعر هذا التوجه يحاول بناء صيغته ويتصل بأشخاص عارضاً عليهم «الأمان» للعودة واستلام مناصب. ويتردد أن مناف طلاس تلقّى اتصالاً بهذا المعنى، وكان جوابه: فات الأوان.
* كاتب وصحافي لبناني