في الذكرى التاسعة لغيابه المليء بالألغاز والأسئلة والمفارقات الفارقات، يبدو الزعيم الراحل ياسرعرفات أقل غياباً عن الذاكرة، وأشد حضوراً في قلب المشهد الذي برع مفجر الثورة الفلسطينية المعاصرة في تكوينه بتؤدة واقتدار. فها هو الأب المؤسس للوطنية الفلسطينية يعيد إملاء نفسه بنفسه، ويستعيد زمام الموقف الذي ظل يمسك خيوطه بإحكام طوال عمره، لكأن الموت لم يطوِ رسالة ذلك الفدائي الذي كان يتقن التنقل بين زخات المطر دون أن تبتل كوفيته، ويمر بين أزيز الرصاص من غير أن تصيبه طلقة.وأحسب لو أن ياسرعرفات أطل علينا اليوم بجسده المنهك وبإشارة النصر التي لم تفارق يمينه في أشد ساعات المحنة، لقدَّم مداخلة حاسمة في خضمّ هذا السجال المحتدم حول هوية القاتل الذي يعرفه هو، ونحن نعرفه أيضاً، استنكر فيها صدمة المصدومين بالجريمة الموصوفة، وقال: ويحكم، هل تودون تأكيد المؤكد من قبل؟ هل تتهمون السمك أنه لا يعيش إلا في الماء؟ هل هناك من يشك في أن شارون فعلها قبل أن يدخل في سباته الطويل؟والحق، أن خصوم عرفات كانوا كثراً في حياته، وأن فيهم من تمنى له الاختفاء عن وجه الأرض، غير أن احداً من هؤلاء لم يسع إلى التخطيط لقتله، ولم تكن لديه الدافعية الكافية لتحقيق ما كان يتمناه في سره. فالخصومة السياسية شيء والعداوة شيء آخر، فمذهب العداوة نظام مؤسس على النفي والإقصاء، فإن تعذر تحقيق الهدف، فلا بأس من الاستئصال، فما بالك اذا كانت شهية القاتل لا تشبع؟.ومما تحفظه الذاكرة الغضة، أن واحداً من خصوم عرفات، واسمه حافظ الاسد، شذّ عن القاعدة، وسعى للتخلص من صاحب شعار “القرار الفلسطيني المستقل” بكل ما كان في وسع باعه الطويلة في لبنان، بما في ذلك اغتياله عبر كمين من تدبير مخابراته وفعل يد فلسطينية مأجورة، إلا أن السهام طاشت في الهواء. كما لم يجاهر أحد بالتخلص من عرفات سوى حسن نصرالله، الذي دعا في خطاب عرمرمي عام 1998، وتمنى أن يبزغ من حرس الرئيس الفلسطيني “خالد إسلامبولي” جديد، يكرر ذات الفعلة على رؤوس الأشهاد.في ذكرى رحيله الثامنة، فاجأ أبو عمار كل من اعتقد أن ذلك المقاتل العنيد قد انسحب من المعركة، التي كان قد افتتحها بنفسه قبل نحو نصف قرن من الزمان، وأثار حضوره الشديد دهشة الخصوم الأقربين، وذلك حين تقاطر مئات الألوف من أبناء شعبه إلى الساحات لإحياء ذكرى رحيل “الختيار” في قطاع غزة. فكان الأمر مباغتاً ومثيراً لهواجس الانقلابيين، الأمر الذي دفعهم هذا العام إلى حظر هذه المناسبة السنوية، دون أن يخجلهم ذلك من رفع “قميص عثمان”.قد لا يكون الأمر مجرد مصادفة بحتة، ان يتم نشر بعض التحقيقات المخبرية، وأن تثار الأسئلة الموجعة عن هوية مقترف الجريمة الكاملة بحق ياسر عرفات، وذلك عشية ذكرى غيابه هذا العام، في خضم مرحلة سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات. ذلك أنه في أوحال عالم السياسة لا مكان لحسن النية، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد ان هناك من يسعى إلى تصفية الحساب المؤجل، ليس مع اسرائيل التي سبق لها أن اغتالت بدم بارد مئات القادة والكوادر من قبل، وإنما مع خصوم داخليين.ومع أنه لا يوجد شخص لديه رأي مسموع، يمكنه الاعتراض على المضي في التحقيقات الفنية إلى نهاية المطاف، وإقامة الركن الغائب من أركان جريمة اغتيال ياسر عرفات، تمهيداً لعرض الأمر على محكمة الجنايات الدولية، إلا أنه ينبغي الحذر كثيراً، وإمعان النظر طويلاً، في مسألة “الحق الذي يراد به باطل”، والامتناع في هذه الآونة عن فتح حرب جانبية لا طائل من ورائها، لا سيما أن المعركة على ساحة القضاء الدولي طويلة وبطيئة ومكلفة، وأن العدو ماهر في النفاذ من خرم الإبرة، الأمر الذي يجدر معه اختيار التوقيت الملائم بكل عناية، وهو ليس الآن.