قيادة العالم معقدة وليست سهلة. هذا ما تعرفه وما توصلت إليه الإدارة الأميركية، بعد 12 سنة من الحروب المتواصلة. حروب استنفدتها مالياً وعسكرياً، على ما قال وزير الدفاع تشاك هاغل، الذي حدد شروطاً لبقائها في موقعها القيادي. أهمها ألا تقع الولايات المتحدة «فريسة الاعتقاد الخطأ بأنها تتلاشى. وأن تتجاوز الانكفاء» الذي تمليه عليها مرحلة ما بعد الحرب.
ربما لم يستطع الرئيس باراك أوباما، على رغم بلاغته، إيصال رسالته وتوضيح واقع بلاده بعدما أهدرت قوتها في احتلال العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب، وربما بسبب هذه البلاغة التي يقدرها الجميع، ويعتبرها البعض مجرد لعبة لغوية ولا يستوعبونها، فأتى وزير الدفاع ليوضحها ويوصلها إلى الأصدقاء قبل الخصوم. الأصدقاء الذين يلومون واشنطن على تراخيها في مواجهة حدث جيواستراتيجي مثل الحدث السوري، والخصوم في الداخل الذين نعتوا الرئيس بالضعف وبعدم القدرة على مواجهة التحديات وبالتفريط بموقع قيادة العالم. أما الأعداء، وهم كثر، ففسروا تراجعه عن شن الحروب مباشرة واستبدالها بالحروب الناعمة هزيمة، وراحوا يستعدون لتوجيه ضربة قاصمة إلى الإمبراطورية الأميركية المترهلة.
وزير الدفاع كان واضحاً. حدد الموقع والموقف من الأحداث. شدد على أهمية استخدام كل أسباب القوة، وليس القدرة العسكرية وحدها، فليس من دولة أخرى غير الولايات المتحدة «تملك القدرة والإرادة والإمكانات والتحالفات لقيادة المجتمع الدولي. وعلينا تعزيز هذه الإمكانات، ومعرفة حدود قوتنا واستخدام نفوذنا بحكمة».
«الحكمة» هي العنوان. وقد تجلت في الانسحاب من العراق والتحضير للانسحاب من أفغانستان. وفي التعاطي مع الأحداث في سورية ومع الملف النووي الإيراني، إذ مزجت إدارة أوباما، على ما قال هاغل، بين الديبلوماسية والاقتصاد والقوة العسكرية، وحشد الحلفاء «للمحافظة» على مصالحها.
منذ وصول أوباما إلى البيت الأبيض، وهو يحاول الابتعاد عن سياسة جورج بوش. وقد أثبت ذلك عملياً بالتحول إلى «الحرب الناعمة»، أي الحصار الاقتصادي واستخدام الطائرات من دون طيار لمحاربة الإرهاب، والديبلوماسية. لكن الحلفاء في أنحاء العالم لم يستسيغوا هذا التحول، فقد بنوا كل سياساتهم، خلال عشرات السنين، على أن واشنطن مستعدة لاستخدام قوتها العسكرية للدفاع عن المصالح المشتركة وأصيبوا بخيبة أمل عندما انكفأت عن مواجهة إيران والنظام السوري، مفضلة الديبلوماسية على الحرب. وساورتهم شكوك، قد تكون في محلها، مفادها أن صفقة ما قد يعقدها البيت الأبيض مع إيران لتقاسم النفوذ معها في المنطقة، خصوصاً في سورية ولبنان وفي العراق. وكانوا يأملون في أن يسقطوا النظام السوري بالتعاون العسكري معها، كي يكون سقوطه ضربة قوية لطهران فإن لم تتراجع عن طموحاتها تصبح في مرمى النار. ودليل الأصدقاء على هذه الصفقة أن واشنطن وطهران تتقاسمان النفوذ في العراق وأفغانستان، منذ أكثر من عشر سنوات.
أما أعداء الولايات المتحدة فوجدوا في سياسة أوباما فرصة للقول إنهم انتصروا، وإن القوة العظمى لم تعد وحيدة في العالم، فقد نشأ حلف جديد ممتد من موسكو إلى سورية، مروراً بإيران. حلف تدعمه دول «البريكس». ويمتلك من القوة الاقتصادية والعسكرية ما يؤهله لخوض الحرب الباردة الجديدة، والحروب الموضعية بقيادة روسية لوضع حد للهيمنة الأميركية المستمرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
رسالة هاغل إلى الأصدقاء والأعداء مفادها أن «الحكمة» أدركت الولايات المتحدة وستقود العالم من موقعها الجديد، بالتعاون مع الخصوم، إذا لزم الأمر. والمفاوضات مع إيران حول ملفها النووي خطوة مهمة في بداية هذا الطريق، ستتبعها خطوات (اقرأ صفقات) يجب أن لا تفاجئ أحداً.