في الربع الأخير من القرن الماضي، بدت أسلحة الدمار الشامل، لاسيما الفرع الكيميائي، وكأنها الضالة المنشودة لعدد من الدول العربية، سواء المنخرطة منها في نزاع حدودي مرير، أو الواقعة تحت وطأة الشعور بوجود تهديد مصيري خطير. الأمر الذي دفع بمثل هذه الدول العاجزة تكنولوجياً ومادياً عن امتلاك السلاح النووي، إلى تصنيع ما اعتُبر في حينه “قنبلة الدول الفقيرة”، ومن ثم خلق المعادل الموضوعي القادر على ردم الهوة، وإيجاد الرد المكافئ نسبياً على التهديدات الخارجية.وفيما تمكنت دولة مثل باكستان، وبعدها كوريا الشمالية، من امتلاك القنبلة النووية، مضت دول أخرى، كلها في الشرق الأوسط، إلى بناء قدرات كيماوية قادرة على خلق حالة من التوازن النسبي، وتكوين قوة ردع مناسبة، أمام امتلاك إسرائيل لفائض من القنابل النووية. وكانت أبرز هذه الدول العراق، وسورية، وليبيا، ومن دون أن نستثني إيران، وربما مصر أيضا. غير أن ما كان صحيحاً في عصر الحرب الباردة، انقلب إلى عكسه في زمن الأحادية القطبية. واتضح خطله أكثر فأكثر بعد أن وضعت الولايات المتحدة قدمها الثقيلة على تراب هذه المنطقة، خلال العدوان الثلاثيني على العراق العام 1991، ثم قيامها بغزو بلاد الرافدين مرة أخرى العام 2003، بذرائع مضللة، من بينها تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية.كان العقيد معمر القذافي أول من التقط الرسالة؛ فمضى من تلقاء نفسه، على قاعدة “بيدي لا بيد عمرو”، إلى التخلص من سلاحه الكيميائي، درءاً لمخاطر أي مواجهة محتملة مع الغرب، ولجلب الرضا عن استمرار نظام حكمه؛ الأمر الذي جرّد هذه المنطقة من مخزوني السلاح الكيميائي في العراق وليبيا، فيما ظل المخزون الثالث والأخير على حاله في سورية. وذلك إلى أن أدى استخدام نظام الأسد لهذا السلاح ضد شعبه في آب (أغسطس) الماضي، إلى فقدان قدرته على الاحتفاظ بهذا السلاح الاستراتيجي، تحت وطأة التلويح بضربة عسكرية أميركية.لقد كان قبول الأسد مرغماً للتخلي عن سلاحه الكيميائي، لشراء مزيد من الوقت في حربه ضد شعبه، وتمديد عمر نظامه الذي فقد شرعيته، بمثابة النقطة الكبيرة في آخر سطر تراجيديا الأسلحة الكيميائية في هذه المنطقة التي باتت مكشوفة أمام عدوها الأساسي، ونعني به إسرائيل، وذلك حتى لا نقول إنها (المنطقة) صارت مستباحة، على نحو ما تقصّه علينا الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية على سورية المجردة من كل قدرة حقيقية على الرد، حتى ولو بصورة لفظية تحفظ ماء الوجه. وبالاستناد إلى مثل هذه القراءة التاريخية الموجزة لدراما الأسلحة الكيميائية في الشرق الأوسط، فإنه يمكن الاستنتاج بسهولة أن هذا الصنف من الأسلحة قد تحول، وسط المتغيرات الجيو-استراتيجية العميقة، من ميزة نوعية تشي بالقوة الذاتية والردع الكامن، إلى عبء كبير على أصحابها، إن لم تكن نقطة ضعف شديدة، جلبت وما تزال تجلب عليهم، مصائب سياسية كبرى، ليس أقلها تسويغ الذرائع المتهافتة لتبرير العدوان، بل والاحتلال في بعض الأحيان.وإذا ما وسعنا زاوية الرؤية ونظرنا إلى باكستان مثلاً، فإننا نجد أن سلاحها النووي لم يشكل بوليصة تأمين لسيادتها المنتهكة على رؤوس الأشهاد، بسلسة لا نهاية لها من هجمات الطائرات الأميركية من دون طيار، رغم كل ما “تولول” به القيادة الباكستانية ضد مثل هذه الانتهاكات الفظة. وهو ما يوضح لنا أنه حتى مع وجود سلاح نووي، وهو أكثر رهبة من السلاح الكيميائي، لم تستطيع دولة أخرى من العالم الثالث، حماية نفسها من العدوان الخارجي السافر.بكلام آخر، فإن ما يمكن قوله بدرجة عالية من الثقة، هو أن أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية، لم تحقق الفارق النوعي الذي كان مأمولاً به من جانب هذه الدول الاستبدادية المتخلفة تكنولوجياً. بل إن هذا السلاح الرهيب لم يؤد إلى إرهاب الأعداء الخارجيين، وإنما إلى إرهاب “الأعداء” من الداخل، وفق ما تجلى عليه الأمر في غوطتي دمشق قبل أشهر معدودة.issa.alshuibi@alghad.jo