لا تكاد الولايات المتحدة تخرج من أزمة حتى تقع في فضيحة .. فبمجرد أن تنفست واشنطن الصعداء لمرور الأزمة المالية التي كادت تعصف بها على خير في اللحظات الأخيرة والتوصل لحل وسط بين الحزبين الجمهوري المعارض والديمقراطي الحاكم لرفع سقف الدين الحكومي وتمرير موازنة مؤقتة للدولة بعد أن كانت على شفا إعلان إفلاسها حتى هزت واشنطن فضيحة كبرى أصداؤها وصلت كافة أرجاء العالم .. وأقصد هنا فضيحة التجسس التي كشف عنها النقاب مؤخرا “إدوارد سنودن” المستشار السابق في الاستخبارات الأميركية والمتورط فيها وكالة الأمن القومي المتهمة بانتهاك الحياة الخاصة ليس فقط لمواطنيها، بل وللعديد من زعماء العالم ومواطنين عاديين من جنسيات مختلفة!!
إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما متهمة بالتجسس على مواطنيها وحلفائها قبل أعدائها .. هذا ما أكده “سنودن”، حيث كشف عن تسجيل مكالمات هاتفية لمواطنين أميركيين ومراقبة مكالمات ملايين الفرنسيين، والتنصت على الهواتف الجوالة لعدد من قادة دول العالم أبرزهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة البرازيل ديلما روسيف، بل والتجسس على اتصالات منظمة الأمم المتحدة، ما سبب حرجا كبيرا للإدارة الأميركية التي عجزت عن الدفاع عن نفسها، ما دفع ألمانيا أحد أهم حلفاء واشنطن في أوروبا إلى استدعاء السفير الأميركي في برلين وإبلاغه باحتجاج الحكومة الألمانية على عمليات التنصت والتجسس التي تقوم بها واشنطن ضد المسؤولين الألمان وعلى رأسهم المستشارة أنجيلا ميركل!!
لقد كشفت صحيفة “دير شبيجل” الألمانية أن الولايات المتحدة تجسست على هاتف المستشارة ميركل لأكثر من 10 سنوات، ورغم أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أبلغ ميركل بأنه كان سيمنع هذا التنصت لو كان علم به، إلا أن مصدرا بالاستخبارات الألمانية نقل عن كاسي الكسندر من وكالة الأمن الأميركية أن أوباما كان بالفعل على علم بالتجسس على ميركل في العام 2010 وأنه سمح باستمرار تلك العملية، وهو ما وضع إدارة أوباما في حرج كبير .. فكيف للدولة الأولى في العالم التي تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان تنتهك حقوق ليس فقط الإنسان العادي، بل حقوق حلفائها وأقرب الناس لها .. وإذا كان هذا تعاملها مع الحلفاء فكيف يكون شكل تعاملها مع الأعداء؟!
لك عزيزي القارئ أن تتخيل ماذا تفعل واشنطن مع العرب إذا كانت تمارس التجسس والتنصت مع المقربين لها من الغرب .. لقد كشفت وثائق سرية نشرها الموقع الأميركي ” cryptome” المتخصص في نشر الوثائق السرية أن وكالة الأمن القومي الأميركية تجسست على نحو 125 مليار اتصال هاتفي ورسائل نصية خلال شهر يناير الماضي فقط معظمها في دول الشرق الأوسط منها 1,9 مليار اتصال في مصر و7,8 مليار اتصال في المملكة العربية السعودية ومثلها في العراق و1,6 مليار اتصال في الأردن، وأن أكبر عمليات التجسس شهدتها أفغانستان حيث تم التنصت على 21,98 تلتها باكستان 12,76 مليار اتصال والهند 6,8 مليار اتصال، أما إيران فكان نصيبها 1,73 مليار اتصال، ولم تشر الوثائق إلى أي عمليات تنصت على اتصالات الإسرائيليين .. فهل ما زلت عزيزي القارئ في حاجة إلى المزيد من التخيل؟!!
لقد فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها أمام العالم واهتزت صورتها بشكل مخيف، ما دفع أكثر من خمسة آلاف مواطن أميركي للتظاهر أمام مبنى الكونجرس الأميركي “الكابيتول” ويطلقون هتافات ضد وكالة الأمن القومي منها “وكالة الأمن القومي يجب أن ترحل” و”أوقفوا الحكومة السرية وكفوا عن التجسس وكفوا عن الكذب” وقدم المتظاهرون إلى الكونجرس قائمة وقعها عبر الإنترنت أكثر من 600 ألف شخص تطالب الكونجرس بالكشف عن الحجم الكامل لبرامج التجسس التابعة لوكالة الأمن القومي .. وتزامنت تلك التظاهرة مع ذكرى مرور 12 عاما على إقرار قانون “باتريوت أكت” الذي صدر عقب هجمات 11 سبتمبر العام 2001 والذي منح وكالات الاستخبارات الأميركية صلاحيات واسعة لمكافحة الإرهاب وحماية الأمن القومي!!
لقد حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما امتصاص غضب حلفائه الأوروبيين بعد أن نسفت فضيحة التجسس ثقة الحلفاء مع الإدارة الأميركية، وأعلن عن بدء التحقيق في عمل وكالة الأمن القومي للتأكد من أنها تعمل تحت الرقابة المطلوبة، إلا أنه امتنع عن التعليق بشأن معرفته بالتنصت على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل .. ورغم ذلك أعلنت برلين أنها تحتفظ بحقها في طرد الدبلوماسيين الأميركيين المرتبطين بفضيحة التنصت إذا ثبتت الاتهامات الموجهة إلى وكالة الأمن القومي الأميركية، ما يعني أن واشنطن باتت على شفا خسارة حليف مهم لها في أوروبا ستؤدي بالتأكيد إلى قيام الحكومة الألمانية بإعادة النظر في علاقتها مع الولايات المتحدة مستقبلا!!
التجسس الأميركي لم يقتصر على الاتصالات الهاتفية فقط، بل حسب صحيفة واشنطن بوست فإن وكالة الأمن القومي الأميركية تجسست أيضا على بيانات مئات الملايين من مستخدمي محركي البحث جوجل وياهو، ما يعني أن أجهزة الاستخبارات الأميركية لديها القدرة على دخول كل بيت لديه جهاز حاسب آلي لتعرف كل ما يدور في أذهان أصحابه .. وهو ما يجعل المرء أي مرء أن يصنف الولايات المتحدة بأنها الجاسوس رقم واحد في العالم بكل امتياز .. أما الحريات الخاصة وحقوق الإنسان التي تتشدق بها ليل ونهار تحت زعم الدفاع عنها، فهي أول من ينتهكها ليس فقط مع الأعداء، بل مع الحلفاء والأصدقاء ومن تزعم بأنهم شركاء استراتيجيون لها!!
سامي حامد كاتب وصحفي مصري
Samyhamed65@yahoo.com