لا بأس في أن تكون هذه مرحلة استراحة وجيزة لالتقاط الأنفاس لكل من الولايات المتحدة وروسيا والمملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، شرط ان تعتزم كل هذه الدول حقاً منع المزيد من «أفغنة» أو «صوملة» سورية ومنع عجرفة النظام في دمشق ومَن يدعمه عسكرياً في القتال. لا مانع في أن يُؤخَّر موعد عقد مؤتمر اطلاق المرحلة السياسية الانتقالية في سورية في «جنيف – 2» الى حين استكمال وضع الأسس والمراجع الواضحة له من بدايته الى نهايته، شرط ألا يكون الهدف اما اجهاضه أو فرض ولادة قسريّة مبكرة له. لا أحد ينفي أهمية الأدوار الإقليمية ومعادلات موازين القوى ومصالح الدول الإستراتيجية، ولكن لا يجوز التراخي إزاء المأساة السورية الملحّة وتداعياتها على الدول المجاورة بذريعة المصالح القومية أو حتى غطاء مفاوضات موازية. بالطبع، توجد مبررات لمواقف كل من اللاعبين المعنيين على الساحة السورية ببعدها المحلي والإقليمي والدولي. بالتأكيد، ان اعتبارات النفط والغاز وبيع السلاح فائقة الأهمية لكل من روسيا وأميركا. وبالقدر نفسه، من اليقين ان الايديولوجية المتطرفة لأمثال «القاعدة» و «جبهة النصرة» و «داعش» وأمثالها ليس في حسابها أبداً تعافي سورية وازدهارها وإنما تصر ايديولوجية التدمير على جرائم ضد الإنسانية على انقاض سورية المدمرة. لا أحد يجادل بأن المعارضة السورية منقسمة ومبعثرة ومؤذية لنفسها وللشعب السوري أيضاً في كثير من الأحيان. انما لا أحد ينكر ان النظام في دمشق ارتكب جرائم ضد الإنسانية أيضاً ولا يمكنه استعادة ما كان له من نفوذ وأدوات أو العودة الى حيث ما كان قبل الانتفاضة السورية. ففي خضم كل هذا، ماذا في الجعبة الأميركية في أعقاب جولة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الى المنطقة التي شملت الرياض والقاهرة؟ وماذا بعد فشل اللقاء الثلاثي الذي ضم ممثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية الأخضر الإبراهيمي، مع نائبي وزير الخارجية الروسي ونائبة وزير الخارجية الأميركي؟ وما هي العلاقة بين «الجنيفين» – ذلك المعني بالمحادثات النووية مع إيران، وذلك المتعلق بإنشاء هيئة سياسية ذات صلاحيات كاملة لتحقيق الانتقال من الحكم الحالي في دمشق الى حكم جديد؟ وهل استدركت موسكو قليلاً كي لا تبدو انها جرّافة تقتلع وتقمع مَن يقف في طريقها، أو انها ماضية الى افشال «جنيف – 2» مراهنة على وقوع المعارضة السورية ومن يدعمها في فخ الإفشال؟ هذه الأسئلة مترابطة والأجوبة عنها متفرقة، انما العنصر المشترك بينها يقع في الخانة الإيرانية لأن طهران محورية في كل هذه الملفات.
هناك انقسام في الآراء حول مَن هو الرئيس الجديد حسن روحاني، وهل في امكانه حقاً إحداث تغيير جذري في النظام في إيران، وما هو مدى مقاومة مرشد الجمهورية آية الله خامنئي للنهج الجديد. ولربما يدخل أبرز التساؤلات الجذرية التي تعني دول المنطقة العربية في خانة ماذا يريد الرئيس الجديد وأتباعه من نفوذ في الدول العربية التي أصر النهج القديم على محوريتها في طموحات ايران الإقليمية – بالذات العراق وسورية ولبنان.
الرأي القائل ان الرئيس روحاني ليس سوى وجه آخر للعملة ذاتها يتوقع استمرارية الإصرار الإيراني على دور إقليمي مهيمِن لا يقل أهمية عن المحورين الآخرين لأركان الحكم في طهران وهما: الإقرار الدولي (بخاصة الأميركي) بشرعية النظام والتعهد بعدم دعم أية محاولة للإطاحة به أو الانقلاب عليه – وهذا مطلب لبّاه الرئيس الأميركي باراك أوباما علناً من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي. والثاني، وهو الإصرار على امتلاك القدرة النووية والاستمرار في تخصيب اليورانيوم.
الرأي الآخر يشير الى نوعية جديدة في التخاطب بين الرئيس الجديد ومرشد الجمهورية، ويشير أحد القائلين بهذا الرأي الى أكثر من مناسبة من ضمنها رد الرئيس روحاني على آية الله خامنئي بالتحدث عن الحجاب في اشارة الى قاعدة شعبية نسائية مهمة للنهج الجديد في ايران.
أصحاب هذا الرأي يشيرون الى خلفية روحاني كشخصية أمنية وأهمية ذلك في التعامل مع «الحرس الثوري» الذي له سلطة واسعة داخل ايران كما في خارجها مثل سورية والعراق ولبنان.
يقولون ان الرئيس روحاني يجهّز للصفقة الكبرى بنهج مختلف عما تمسّك به أتباع خامنئي وقادة «الحرس الثوري:» إذ انه أكثر انصباباً على انقاذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية من التدهور اقتصادياً بسبب استمرار العقوبات المفروضة عليها. انه جعل من رفع العقوبات هدفه الأساسي حتى وإن كلّف ذلك انحسار الهيمنة الإقليمية المطلقة. أي، وفق أحد الخبراء، ان الرئيس روحاني سيصر على الأرجح على التمسك بالعراق ساحة أساسية للنفوذ الإيراني، لكنه قد يكون مستعداً للتخلي قليلاً عن طموحات النهج القديم بموقع قدم على البحر المتوسط عبر امتلاك سورية ومعها لبنان.
سياسي عربي مخضرم خبير بإيران قال ان «الصفقة» الكبرى «ليست جاهزة وأنه عند جاهزيتها ستكون طهران مستعدة – أو مضطرة – للتخلي عن الرئيس السوري بشار الأسد وللتأثير في «حزب الله» في لبنان ليكون أقل هيمنة على المصير اللبناني مما هو الآن.
كلام وزير الخارجية الإيراني الجديد محمد جواد ظريف المقرب من الرئيس روحاني لافت في هذا الصدد، إذ قال ان طهران قد تستخدم نفوذها لتشجيع المقاتلين الأجانب في سورية على الانسحاب منها. جاء ذلك عندما رد ظريف على سؤال عما إذا كانت ايران مستعدة لاستخدام نفوذها على جماعة «حزب الله» اللبنانية التي تحارب الى جانب قوات الأسد في سورية أثناء ظهوره في تلفزيون «فرانس 24» قبل أيام. قال: «ايران مستعدة لمطالبة جميع القوى الأجنبية بالانسحاب من سورية. نحن مستعدون للضغط من أجل انسحاب غير السوريين جميعاً من الأراضي السورية».
هذا الموقف يعكس رأياً لأحد أركان النهج الجديد، انما هذا لا يعني تلقائياً أن أركان النهج التقليدي استسلموا أو أن «حزب الله» اختار مساراً واحداً له بين النهجين فرئيس كتلة نواب «حزب الله» في لبنان محمد رعد هاجم خصوم الحزب قائلاً: «نحن دافعنا عن انفسنا وعن لبناننا بما يتطلبه الدفاع، لكن حذار أن تجبرونا على أن نتصرف بغير الدفاع». قال أيضاً: «لا توجد وسطية اسمها النأي بالنفس، هذه الوسطية الحيادية هي انحياز الى معسكر الباطل، عن قصد أو عن غير قصد». هذا الكلام لا يعكس نهج الاعتدال الذي وصل طهران عبر الرئيس روحاني. فإما ان الخلاف جذري بين النهجين، وإما ان هذه مرحلة التموضع لكل من النهجين، أو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفاءها يوزعون الأدوار عمداً ضمن استراتيجية المفاوضات في جنيف: النووية منها والسياسية المعنية بسورية.
اللغة جديدة ظاهرياً وعملياً، انما هناك لغة في الخطاب الإيراني تنتمي الى «الثوابت» ما زالت قائمة بقوة. الخطاب الجديد هو ذلك الذي يتحدث علناً عن المقايضة بين الاستعداد لإنجاز تقدم في المفاوضات النووية وبين رفع العقوبات أو تخفيضها. الخطاب التقليدي ماضٍ في الإصرار على مواصلة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة مع التلميح بإمكانية الاستعداد لـ «تعليق» التخصيب بهذه النسبة إذا سبقته اجراءات فاعلة لتخفيف جدي للعقوبات التي تقصم ظهر الاقتصاد في ايران فالمعادلة التفاوضية تقوم على السباق بين الاتفاق على اطار التفاوض وبين الرفع التمهيدي للعقوبات.
معركة رفع العقوبات عن ايران أو تخفيفها أميركية داخلية بقدر ما هي جزء من المد والجزر في المفاوضات مع إيران. فهناك مقاومة جدية لإسراع ادارة أوباما الى الانبطاح أمام المطالب الإيرانية كدفعة مسبقة ولتسرع ادارة أوباما في معركة «الثقة». فإيران تريد من الولايات المتحدة ألا تكون متشددة في شأن «إلغاء» العقوبات، وأن تقبل «بحق» ايران في تخصيب اليورانيوم بصفته «خطاً أحمر» وذلك كمؤشر الى «حسن نيتها ولدفع المفاوضات الى أمام» كما جاء في وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية نقلاً عن مصدر مقرب من الفريق النووي المفاوض.
رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية علي أكبر صالحي قال «نلتزم المقاومة العقلانية ولن نألوا جهداً في حفظ مصالحنا. نأمل ألا تكرر الدول الست أخطاءها في المفاوضات». أما جواد ظريف، فإنه يتحدث بلغة ان بلاده «ستختبر مدى جدية الدول الراغبة في التوصل الى تسوية مرضية للجانبين» ويطالب هذه الدول «باستعادة ثقة الشعب الإيراني»، وبإصلاح «سلوك غربي دمر ثقة الإيرانيين».
هذا في جنيف المحادثات النووية. أما في ما يتعلق بـ «جنيف – 2» الرامية الى محادثات سياسية في مستقبل سورية، فإن ايران مصرة على ان تكون جزءاً منها يعاونها في هذا الإصرار حليفها الروسي. انها تحتفظ بكامل أوراقها التفاوضية على تلك الطاولة، بدءاً من دورها المباشر وغير المباشر على ساحة القتال في سورية، مروراً بما يتطلبه التموضع اقليمياً في الساحات العربية بالذات العراق واليمن ولبنان، وانتهاءً بالعلاقة الإيرانية مع دول مجلس التعاون الخليجي وبالذات المملكة العربية السعودية.
طهران أخذت علماً بأهمية زيارة جون كيري الى الرياض لإرضاء وطمأنة القيادة السعودية الى التزام الولايات المتحدة بالعلاقة الاستراتيجية التي تتضمن الأمن القومي والأمن الإقليمي لدول الخليج في اطار التحالف معها. هذا لا يعني ان ايران سارعت الى الاستنتاج بأن نهجاً جديداً ثابتاً لإدارة أوباما قد انبثق أو أن واشنطن ستتراجع عن إقبالها العارم على طهران. فالحذاقة الإيرانية تحسن قراءة المشهد السياسي الأميركي وتحسن بالقدر نفسه فن الصبر الى حين نضوج الصفقة واستخدام كل الأدوات لإنضاج الطبخة أو تخريبها. والسياسة الإيرانية ما زالت ثابتة على مركزية سورية لمستقبل ايران في الصفقة الكبرى، إذا اكتملت. فطهران تدهش عندما تشاء لأن من الصعب قراءتها أو التنبؤ بخطواتها. ووفق «خبرية» يصعب تصديقها ان سبب تراجع الرئيس باراك أوباما عن توجيه ضربة عسكرية الى سورية في الساعات الأخيرة هو تلقيه – وفق هذه المزاعم التي لا يمكن التثبت من صحتها – اتصالاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفيده بأن في حال توجيه الولايات المتحدة ضربة عسكرية الى سورية، فإن ايران جاهزة لتوجيه ضربة الى الدول الخليجية هدفها الحصري شل الشبكة الكهربائية برمتها انتقاماً. ووفق صاحب هذه المقولة تراجع أوباما أمام هذا الإنذار لأنه كان من شأن العملية الانتقامية ان تجره الى الرد عسكرياً على ايران فقرر ألا يُستدرج على الإطلاق في سورية. وهذا تماماً ما راهنت عليه، لربما، الحذاقة الإيرانية.
واقعياً وبعيداً من التخمينات، ان ما تتبناه طهران الآن هو سياسة عدم التفريط بالورقة السورية المتمثلة بتحالفها مع النظام في دمشق واستمرارها في دعم رئاسة بشار الأسد أقله الى حين اجراء انتخابات رئاسية صيف السنة المقبلة. فهي تنظر الى «جنيف – 2» بأنه مؤتمر يضعها على طاولة صنع مستقبل سورية ويوفر لها أوراقاً تفاوضية مع الولايات المتحدة. وطهران اليوم – بنهجها القديم أو الجديد – ليست في وارد التفريط بورقة «حزب الله» مهما يقال عن جاهزيتها في نهاية المطاف لـ «صرف» تلك الورقة الغالية عندها في اطار الصفقة الكبرى التي ما زالت بعيدة.
فهذه مرحلة الاستراحة المؤقتة لالتقاط الأنفاس والكل سيعود الى طاولة رسم السياسات الاستراتيجية بما يتناسب مع مصالحه الآنية والبعيدة المدى. سورية ستبقى ساحة الرهانات وجمع الأوراق للاعبين الكبار والصغار لفترة غير قصيرة ستزداد فيها مأساة السوريين المشردين داخلياً وأولئك النازحين الى الدول المجاورة التي هي بدورها لم تخرج كلياً من دائرة الخطر.