أرقام مرعبة تقدمها الأمم المتحدة عن الكارثة السورية. 9.3 مليون نسمة من اصل السوريين داخل بلدهم، والبالغ عددهم نحو 20 مليون نسمة، يحتاجون الى مساعدة. اي ان نصف عدد سكان سورية يحتاجون الى مساعدة. 6.5 ملون نسمة، اي ثلث السوريين تقريباً، تركوا منازلهم وأماكن سكنهم، وتحولوا الى مهجرين، داخل بلدهم وفي بلدان الجوار. يُضاف الى هؤلاء مئات آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وبلايين الدولارات من الخسائر البشرية.
ورغم اعلان هذه الأرقام الفضحية – الإنسانية، ما زال المعنيون بالشأن السوري يتجادلون في امكان دعوة ايران الى مؤتمر «جنيف 2»، وظروف هذا الحضور، لتصبح كارثة بهذا الحجم تحل بشعب مجرد وسيلة لإعادة تأهيل نظام يعاني عزلة دولية منذ ان اندفع في برنامج نووي يثير شكوكاً بأهدافه.
ترعى موسكو «حفلة التهريج» لإخفاء معالم الفضيحة الإنسانية التي لا تزال تغطيها، وبإصرارها على التمثيل الإيراني في «جنيف 2»، مثله مثل اعتبار نائب رئيس الوزراء السوري السابق قدري جميل معارضاً شرساً للنظام وله مطالب ينبغي ان تطرح على طاولة التفاوض في جنيف (!)، فإنها لا تفعل سوى الإمعان بمزيد من التجويع والتهجير للشعب السوري. وهذا ما أكدته الديبلوماسية الروسية منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في سورية.
ايران مهتمة هي أيضاً بأن تكون في جنيف، لتسقط كل الاتهامات لها (ولـ «حزب الله» اللبناني و»لواء أبو الفضل العباس» العراقي) بالتدخل المباشر في الحرب في سورية والتدخل السياسي والأمني في بلدان المنطقة. كما انها تعيد طرح دورها في المنطقة وتحفظ حصتها في اي تسوية. لذلك تندفع الى المطالبة بالحضور، مستفيدة من الرغبة الأميركية الحالية في إرضاء الروس بأي ثمن من اجل تفادي مواجهة الحقيقة على الأرض في الشرق الأوسط.
وبديهي ان يكون مطلب النظام السوري الحضور في «جنيف 2»، اذ سيكون ذلك بذاته ضمانة الى نجاته من اي محاسبة تتعلق بالأرقام المرعبة التي ادت اليها معالجته مطالب الحركة الاحتجاجية السورية، وإلى ان إعادة تأهيله باتت أمراً واقعاً، بضغط من الروس وبموافقة من الولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار يمارس النظام السوري وداعموه الإيرانيون والروس عملية خداع لا سابق لها من خلال الكلام عن الحل السياسي وضرورته. فجدل التمثيل والحضور في جنيف، الى كونه سبيلاً الى اعادة التأهيل السياسي للنظام، يحرّف الاهتمام والتركيز عن المسألة الأساسية والملحة المتعلقة بوقف القتل والتدمير. ويوفر الغطاء لاستمرارهما في كل أنحاء سورية، بما يعطي لاستراتيجية النظام القائمة على الحل الأمني كل أبعادها.
هكذا تتعارض الاستعدادات الحالية لـ «جنيف 2»، وعلى النحو الذي نشهده، مع مصلحة الشعب السوري بوقف القتال والتدمير وتأمين الممرات الإنسانية لوصول المساعدات الغذائية والطبية.
في العودة إلى الأرقام المرعبة، قالت المسؤولة عن العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة فاليري آموس امام مجلس الأمن اول من امس إن عدد السوريين الذين باتوا اليوم في حاجة الى مساعدة انسانية ارتفع اكثر من ثلاثة ملايين منذ أيلول (سبتمبر) الماضي، في حين ارتفع عدد النازحين في الفترة نفسها اكثر من مليوني نسمة. وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، وهي مرشحة لذلك في ظل استمرار هذا الجدل العقيم حول الحضور والتمثيل في جنيف، قد يطاول التهجير والعوز كل الشعب السوري، بما تنتفي معه الحاجة عندئذ إلى أي مؤتمر…
ان فرض اعادة ترتيب الأولويات في ادارة الصراع يقع على عاتق المعارضة، ما دامت تعلن تمثيلها لتطلعات الشعب ومصلحته. لكن ما تقوم به حتى الآن لا يبشر بالقدرة على احداث مثل هذا التغيير. فهي، كما يفهم من تصريحات المسؤولين في «الائتلاف» وقادة «الجيش الحر»، لا تزال تعول على دعم سياسي وعسكري عربي ودولي من اجل قلب المعادلة، في حين ان الاتجاه العام هو الرضوخ لضرورات التفاهم الأميركي – الروسي، وانعكاساته على النظرة إلى الحل في سورية، ومنها «جنيف 2».