يوم الجمعة الماضي سافر أحد القضاة الألمان الى موسكو واستجوب (سنودون) الموظف السابق بوكالة الأمن القومي الأميركي الذي فضح ممارسات التجسس الأميركي على القادة الأوروبيين وعلى اتصالاتهم ثم استقر في روسيا لاجئا وهذه الزيارة (القضائية) تنذر باستمرار الشقاق بين الحليفين واتخاذه وجهة أدق وأعسر. ومنذ أسبوع انعقدت قمة أوروبية غير مسبوقة ولم تكن على بال واحد من القادة ولا الخبراء في العلاقات الدولية لأنها قمة …. خصصت لمعاجة قضية غريبة وهي اكتشاف حكومات الإتحاد الأوروبي أن وكالة الأمن القومي الأميركية الرسمية تتنصت على هواتف أبرز القادة الأوروبيين وبخاصة جوال السيدة أنجيلا ميركل زعيمة ألمانيا وأن الوكالة الأميركية (أي في الحقيقة الإدارة الأميركية) أصبحت في المنظور الأوروبي تتصرف كعدو استراتيجي مهما كانت العبارات الدبلوماسية المنمقة التي اختارتها القمة في بيانها الختامي وسبق أن وصفت ميركل العمليات المخابراتية بالتجسس وأضافت أن التنصت على جوالها الشخصي كان لها بمثابة الهزة القوية لأن واشنطن حليف ولم يجد الرئيس أوباما بدا من الإعتراف المبطن بالتجسس لكنه أوعزه بالطبع إلى ضرورة الحفاظ على الأمن الغربي (أميركا وأوروبا واليابان والحلفاء التقليديين لحلف الناتو)، والعالم يشهد منذ عشرة أعوام بأن الإتحاد الأوروبي شعر أنه لابد أن يعمل من أجل إقرار سياسة خارجية موحدة و إنشاء قوة عسكرية مشتركة، وقد فهم المراقبون الأذكياء بأن أشياء كثيرة بدأت تتغير في ملف العلاقات الأوروبية الأميركية مع قدوم البركة بن الحسين أوباما الى البيت الأبيض، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وأبرزها تعطيل الكونجرس لميزانية الدولة الفيدرالية الأميركية، ومع ظهور ما يسمى بالربيع العربي الذي خلخل موازين القوى بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي ونتذكر أنه منذ رئاسة نيكولا ساركوزي للإتحاد الأوروبي، ومع بروز معضلة القرصنة البحرية في المعابر التقليدية والتي تهدد التجارة العالمية وإمدادات النفط والغاز تعزز التعاون بين الحليفين بعودة فرنسا إلى القيادة المركزية لحلف الناتو وكذلك مع حلول عصر جديد في العالم وصلت خلاله أمم صاعدة إلى مركز القيادة والريادة مثل الصين والهند والبرازيل وعودة روسيا التدريجية الى سالف عنفوانها مع الأزمة السورية. وقد ذكر المراقبون بأن الأخطار المحدقة بأوروبا تدفع الإتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في نوعية الإرتباط ما بين أوروبا وحلف شمال الأطلسي أي في الحقيقة ما بين القارة العجوز التي تعتبر نفسها أم الولايات المتحدة و ما بين الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها راعية وعرابة أوروبا!
ولم يخل بيان القمة التي كانت جريئة بعكس بيانها من إشارات تهدف لطمئنة الرئيس الأميركي والحلفاء في الناتو لكون باريس ولندن وبرلين لا تنوي قلب الموازين الغربية رأسا على عقب بل هي تسعى فقط الى نوع من التكامل والتناغم مع حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة. ومن الأكيد بأن هذه الإشارات جاءت كتنازل فرنسي ضروري للحساسية البريطانية والألمانية إزاء كل ما من شأنه أن يعكر مزاج واشنطن أو صفو إدارتها، لأن الفروق قائمة بين السياستين الخارجيتين لكل من فرنسا من جهة وبريطانيا وألمانيا من جهة ثانية في هذا الملف بالذات. فباريس بالرغم من ميول سياستها الأطلسية إلى نوع من الاستقلالية الديجولية ليس بمقدورها التخلي لا عن استقلال قرارها السيادي ولا عن التحالف الغربي التاريخي وبخاصة في علاقاتها العربية والافريقية بينما لا ترى بريطانيا وألمانيا إلا ما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة. وهذا يفسر الحيص بيص الذي يميز التأسيس الأوروبي منذ نصف قرن. و طالما حدثني عنه صديقي طيب الذكر ميشال جوبير وزير خارجية فرنسا الأسبق.
وعلى هذه الخلفية الحرجة نعيد للأذهان قضية قبول أوكرانيا وجورجيا كعضوين في الإتحاد الأوروبي بعد أن دارت رحى حرب حدودية بين جورجيا وروسيا منذ سنوات قليلة وكادت الحرب المحدودة أن تتسع وتتحول الى صراع نووي أوروبي- روسي تم بسرعة إخماد لهيبها إلى حين، بفضل تحرك مكوكي قام به الرئيس الفرنسي أنذاك و نجح في إمساك العصا الدبلوماسية من وسطها بفهلوة صعبة وعجيبة. فالملف رغم تأجيله يبقى ساخنا لأن موسكو أثبتت بأنها لن تفرط فيما تسميه قضية حياة أو موت بالنسبة لروسيا ومصير إتحادها ولأن واشنطن بعيدة جغرافيا عن ساحة الصراع لكنها مرتبطة بمعاهدة حلف الناتو وأكد البركة بن الحسين بأنه يساند مساعي الإتحاد الأوروبي في ذلك الملف الحساس.
والملف الحساس الثاني الذي سيرسم خارطة العلاقات الأوروبية الأميركية في الشهور الأخيرة لولاية أوباما هو بلا شك الملف الأفغاني لأن الرئيس الأميركي يضع في طليعة مشاغله تعزيز حضور قوات الناتو بقيادة أمريكية في أفغانستان بالموازاة مع معالجة ملف النووي الإيراني من قبل الوزير جون كيري بالتعاون مع الحليف الأوروبي وسيكون الإسهام الأوروبي في هذا التوجه الاستراتيجي مقياس مدى إنخراط الإتحاد الأوروبي في قوات الحلف و مدى التزام أعضائه النافذين في تقوية الحلف وإنجاح عملياته. و نلاحظ بأن تشكيل فريق الإدارة الأميركية الراهنة خضع لخيارات أساسية تقدم التقاليد الثابتة للسياسة الخارجية الأميركية على إغراءات التغيير المستعجل، فتعيين جون كيري على رأس الخارجية يؤكد هذه التوجهات البعيدة عن المغامرة.
بقي أمام العلاقات الأوروبية الأميركية إشكال تنسيق التعاطي مع الصين وروسيا في المستقبل لأن واشنطن تعلق أهمية قصوى على انخراط أوروبا في برنامج استراتيجي غربي شامل للتعامل مع القوتين الصاعدتين في بيكين وموسكو بالنظر الى دقة التناقض بين مصالح الغرب و مصالح هاتين الدولتين المتعاظمتين بالخصوص في مجال استهلاك ومراقبة إنتاج و تسويق الطاقة في العالم. وهنا يدخل على الخط التباين الواضح في علاقات أوروبا المتينة مع موسكو والتوتر في علاقاتها مع بيكين، فموسكو تثني على جهود الإتحاد الأوروبي في معالجة الملفات العالقة بين أوروبا و كل من الصين و روسيا.
هذا والملاحظ أن المحك الحقيقي لتطور أو تدهور العلاقات الأوروبية الأميركية سيكون الموقف تجاه الانهيار النقدي والاقتصادي الغربي والعالمي انطلاقا من الأزمة الأميركية لأن البركة بن الحسين يطالب باستعداد أوروبي ساطع لإعانة الاقتصاد الأميركي على النهوض بعد الأزمة كنوع من رد الجميل على خطة مارشال الأميركية التي أنقذت أوروبا من الضياع في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
د.أحمد القديدي
كاتب وسياسي تونسي