بين حذاء القاضي وصفر الوزير

lait-3za

          بقلم- ليث العزة

للحذاء حضور خاص في التاريخ العربي، وقد ارتبط بالطرائف، ورويت الحكايات بخصوصه على سبيل التندر، كما هو الشأن مع حذاء الطنبوري ، هذا الرجل لما ضاق ذرعا برتق مداسه وترقيعه قرر التخلص منه، لكنه كان كلما تخلى عنه أوقعه في ورطة ترتبت عنها غرامة مالية كبيرة… فذهب إلى القاضي وطلب منه أن يكتب براءته منه حتى لا يؤاخذ بأي جريرة يتسبب فيها هذا الحذاء اللعين.

  في عصرنا الحديث فرض الحذاء نفسه بقوة مع الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي أضاف له وظيفة جديدة أخرجته من حيزه الضيق المتمثل في الانتعال والدوس على الأرض إلى فضاء أرحب يتمثل في  اتخاذه قذيفة حية ضد الطغاة والجبابرة قادرة على رد الاعتبار للذات المكلومة بجراح الإهانة والإذلال، ليوقع بذلك على شهادة ميلاد جديدة للحذاء كسلاح من لا سلاح له، سلاح المقهورين والمغلوبين على أمرهم.

   والقاسم المشترك بين حذاء الطنبوري وحذاء الزيدي هو عنصر الطرافة التي اتخذت مع الأول طابعا كوميديا، واصطبغت مع الثاني بصبغة دراماتولوجية.

   في الاردن، ونظرا للخصوصية الاردنية، فقد أريد للحذاء أن يكون عنصر جاذبية يمارس جاذبيته القوية في إنحناء الأجسام والرؤوس العاتية، وإجبارها على النزول إلى الأرض والجثو على الركبتين، لتذكير من نسي بأنه ليس شجرة حتى يعيش واقفا.

  هو إذن ــ انطلاقا من هذا المنظور ــ  سلاح المرضى بداء الاستعباد، يشفي ساديتهم، ويحقق لهم الإشباع وإرواء الظمإ في الاستخفاف والإهانة والدوس على الكرامة، أو ما تبقى من الكرامة.

  الخصوصية الاردنية جعلت الاردني يشهد طفرة كبرى في الاتجاه المعاكس من الانحناء والركوع إلى الانبطاح والسجود بفضل الحذاء طبعا. لينمحي وإلى الأبد الحلم الجميل الذي راودنا في أن نقف منتصبي القامة.

 تقبيل الحذاء ليس واقعة معزولة، فبيننا وبين القبلات ــ نحن الاردنين ــ ميثاق غليظ  يجعلنا نقبل الشجر والحجر والدواب وكثيرا من رؤوس الناس وأرجلهم، طلبا للبركة من أولئك،  واستجداء لهؤلاء.

  بعيدا عن واقعة الإكراه التي ارتبطت بحالة القاضي لا يمكن أن يفوتنا ذلك الاستعداد والتهيؤ النفسي والجاهزية للعق الحذاء، سواء من خلال الصورة المادية المباشرة والصريحة، أو من خلال ممارسات يمارسها الاردني كطقس تعبدي يومي ، ويتخذها قرابين تدنيه ممن اشرأبوا بأعناقهم عاليا، بشعور أو بلا شعور، وفي كلتا الحالتين تعزى النفس بيافطة المصلحة عملا بالمثل القائل: ” اليد التي لا تستطيع كسرها قبلها وادع على صاحبها بالبتر”.

 إننا ــ والحالة هذه ــ نشاهد يوميا سيلا من مظاهر لعق الحذاء، عقدنا معها مصالحة ولم تعد تثير فينا الشعور بالإهانة… لا عق حذاء من يرى ثروات بلده تنهب دون أن يجرؤ على تحريك شفتيه ، لا عق حذاء من يتنازل عن مبادئه مقابل عرض من الدنيا قليل ، لا عق حذاء من يبيع صوته الانتخابي بدنانير قلت أو كثرت، لاعق حذاء من يضع في يد هذا أو في جيب ذاك أوراقا نقدية مقابل خدمة إدارية يضمنها له القانون ، لا عق حذاء من انتهك حقه في الصحة والتعليم وانصرف دون أن يصدر ولو عبارة شجب واحدة……

 تحضرني هنا قولة للمفكر الجزائري”مالك بن نبي” في معرض حديثه عن الاستعمار: ” لقد طرح العالم الإسلامي الاستعمار وأغفل القابلية للاستعمار” ، ونحن في هذه الواقعة طرحنا الحذاء وأغفلنا القابلية  لتقبيل الحذاء ولعقه، تلك التي صنعنا بها في غفلة عن الوعي طغاة وجبابرة، توهموا أنفسهم آلهة ، فرأوا من اللازم  أن يؤدي بنو البشر في محاريبهم  طقوس الطاعة العمياء، تذكر الروايات أن رجلا ادعى الألوهية في العصر العباسي ، فلما ألقي عليه القبض، وصدر في حقه حكم الإعدام  قال للخليفة ما مفاده بأن الناس هم من نصبوه إلها عندما أشعروه بعظمته الزائدة، وطلب منه أن ينظره إلى يوم محدد في الأسبوع يلتقي فيه بمريديه وأتباعه ليلاحظ بنفسه ما سيقع، وفي اليوم الموعود صعد مدعي الألوهية إلى قمة جبل، فإذا بالناس من كل حدب يتسابقون لأداء واجب الطاعة راكعين ساجدين.

 لهذا جاء النص القرآني واضحا في تحميل المهان الملطخ بالاحتقار والاستعباد مسؤولية تساوقه مع إرادة مهينه، قال تعالى عن قوم فرعون: ” استخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين”.

 ودائما في إطار ممارسة السلطة يأتي صفر الوزير للمدرسة على خطها الرديء، وأظن أنه ليس صفر المدرسة لوحدها، بل صفرنا جميعا في الكرامة والأنفة وعزة النفس، إنه حصيلتنا التي نشكر السيد الوزير على مصارحتنا بها عساها توقظنا من سباتنا العميق، فنستلهم من شامات العرب شيئا من شموخ العربي وأنفته، نستدعي مواقف الكرامة من عنترة بن شداد الذي وضع حدا لاستعباده ببضع كلمات خاطب بها مستعبديه حينما طلبوا منه اقتحام المعركة: ” العبد لا يعرف الكر، وإنما يعرف الحلب والصر”، فأطاح بكبريائهم المزعوم وتهاوت نخوتهم الكاذبة، لينتقل خطابهم من الأمر إلى التوسل: ” كر وأنت حر”، وعمرو بن كلثوم الذي عالج إحراج الأم بطعنة لم تبق ولم تدر على قيد الحياة  من سولت له نفسه إلحاق سوء رمزي بها، ومن الصحابي الجليل الذي بعثه نبي الكرامة محمد عليه الصلاة والسلام إلى كسرى زعيم إمبراطورية الفرس العظيمة آنذاك، فراح يغرس حربته بكل قوة وعنفوان في بساطه الحريري محدثا مع كل خطوة يخطوها ثقبا ظاهرا ردا على استفزازه بمساومة المسلمين على التراجع عن المعركة نظير إطعامهم وكسوتهم.

ونستدعي هذه المواقف كذلك من الصحابي الذي بعث إلى مسيلمة الكذاب، وأبت عليه فطرته أن يغتال كرامته في حضرة المجرم، مفضلا أن يموت شهيدا، لتخرج روحه إلى بارئها مصحوبة بهذه العبارة الرائعة:” فزت ورب الكعبة”، نعم فزت، وما أعظم جائزتك أيها المقدام، فزت في إثبات العزة والكرامة، وفي الوقوف بشموخ ضد إرادة المريض في ممارسة شذوذه  الاستعبادي، فسطرت بدمك ملحمة النفس الأبية التي ستبقى خالدة دائمة الحضور في ذاكرة كل حر أبي.

لقد وصلت حساسية العربي من امتهان كرامته إلى رفضه النطق بضمير المتكلم بكلمات تنتمي إلى معجم الخضوع والإهانة ، كما هو الشأن مع الأعرابي الذي سئل عن  كلمة ” أستخذئ”،إن كان الأصوب فيها هو تخفيف الهمز، أم تحقيقه  (وهي من الاستخذاء، بمعنى الذل والخضوع والانقياد)، فأجاب مثبتا الهمز، لكن بضمير الغائب منفيا  قائلا : ” العربي لا يستخذئ”

شاهد أيضاً

ترقب لافتتاح أكبر منتزه مائي بالشرق الأوسط

يترقب الجمهور افتتاح منتزه “أكواريبيا” بمدينة القدية، الذي يمثل نقلة نوعية في عالم الترفيه المائي …

اترك تعليقاً