شخصيا ضد التدخل العسكري الأجنبي في سوريا، تلك قناعة أؤمن بها ولكنني في الوقت ذاته ضد استمرار نظام بشار الأسد الذي لم يفقد مشروعيته السياسية والوطنية والقومية فحسب وإنما فقد جدواه كنظام بمقدوره حكم البلاد وشعبها بعد أن أسهمت آلته الحربية الجهنمية في قتل أكثر من مائة ألف شخص فضلا عن عشرات الألوف من الجرحى والمقعدين وملايين اللاجئين بالخارج والنازحين بالداخل.
وفي ضوء هذه القناعة التي أؤمن بها انطلاقا من الإيمان بها من قبل القاعدة العريضة من الشعب السوري والثوار الذين يقاتلون هذا النظام فإن ثمة تحفظات على مؤتمر جنيف 2 والذي تشير التقارير إلى أنه قد يعقد في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر المقبل، أولها يتعلق بما يتردد من وجود صفقة روسية أمريكية على الإبقاء على بشار الأسد رئيسا فذلك سينطوي على ظلم بيِّن للثورة السورية وللثوار الذين دفعوا الكلفة الباهظة من الدماء ومن البنية التحتية للوطن التي أنهى النظام وجودها ودمر قدراتها وبالتالي فإن الموقف الذي أعلنه رئيس الائتلاف الوطني المعارض الدكتور أحمد الجربا والمتمثل في أنه لن يحضر مؤتمر “جنيف 2” للسلام إلا إذا كان الهدف هو رحيل الرئيس السوري بشار الأسد.
ولاشك أن هذا الموقف يعكس مبدئية لدى قيادة الائتلاف مطالبة بالتمسك بها رغم كل الضغوط التي ستمارس عليها أو بالأحرى مورست عليها خلال الفترة المنصرمة للتراجع عنه وأظن أنه لو تراجعت ستخسر كثيرا من رصيدها في الداخل السوري الذي يشكل عنصر الإسناد الرئيسي للثورة، بل وللمعارضة في الخارج.
وحتى ينجح المؤتمر في بلورة حل سياسي وفقا للقناعات التي عبرتها مختلف الأطراف المؤثرة في المشهد السوري فإنه بات مطلوبا من الجهود التحضيرية له والتي يقودها في الفترة الحالية الأخضر الإبراهيمي المبعوث الأممي والعربي لسوريا وكل من جون كيري وزير الخارجية الأمريكي وسيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي أن تركز على خيار استبعاد الأسد من المعادلة السياسية القادمة في سوريا ولكن من الممكن الإبقاء على عناصر تنتمي للنظام لم تتلوث في أعمال القتل والتخريب ضد الشعب السوري عند التوافق على تشكيل الحكومة الانتقالية التي تمثل المحور الأساسي لبيان “جنيف 1” الذي عقد في يونيو من عام 2012 والذي يعمل جنيف 2 على تجسيدها في أرض الواقع.
وفي تقديري وتقدير الكثير من المتابعين للشأن السوري فإن النموذج اليمني والذي تم بمقتضاه توفير حل سياسي للأزمة في هذه البلاد التي كانت توصف دوما بالسعيدة قابل للتطبيق في معالجة أزمة سوريا رغم أن هناك فوارق وتمايزات بين الأزمتين ولكن جوهرهما واحد ويكمن في وجود نظام استبدادي يرفض التفاعل مع أشواق الشعب إلى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والديمقراطية وفي هذا السياق فإن روسيا الحليف القوي لنظام بشار والتي تقدم له كل يوم الدعم والإسناد اللوجستي والسياسي لبقائه صامدا حتى اليوم بل ودفعه إلى تحقيق بعض الاختراقات على الأرض إلى جانب الدعم الذي يتلقاه من إيران وحزب الله يمكن أن تلعب دورا محوريا باتجاه إقناع بشار بالنموذج اليمني والذي حظي بتأييدها إن أرادت استقرارا حقيقيا في البلاد والمحافظة على مصالحها فيها وعندئذ لن يكون بمقدور الأسد أو زمرته الحاكمة التمسك بالاستمرار في السلطة والتي لا يعرفون من محدداتها سوى أسلوب القهر والاحتكار والاستحواذ على مميزاتها وما تتيحه من ثروة، بينما الشعب يكابد أهوالها.
وحسبما أتذكر فإن اجتماعا عربيا على مستوى وزراء الخارجية العرب عقد بالدوحة خلال العام 2012 قدم مقاربة للنموذج اليمني على بشار ونظامه ومن بينها مغادرته مع أهله وأركان حكمه للخارج مع ضمانات بعدم الملاحقة الأمنية والقضائية لهم، لكن للأسف لم يتجاوب معها، بل اعتبرها تدخلا في الشؤون الداخلية للنظام وعلى إثرها صعد من إجراءات القتل والعنف ضد الثوار والشعب حتى بلغ به الأمر إلى حد استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين مثلما حدث في الحادي والعشرين من أغسطس الماضي.
ولو كان الأسد يمتلك قدرا من الذكاء السياسي لبادر بقبول هذا الطرح العربي وحظي بالاحترام الكبير، لكنه مثل كل المستبدين والذين تخدعهم سطوة ما يمتلكونه من قوة – والتي لا يمتلكون الجرأة على توجيهها إلا لشعوبهم فقط- تصيبهم دائرة العناد فيدفعون دفعا للخروج من مقاعد السلطة، هكذا فعل زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك ومحمد مرسي في مصر والقذافي في ليبيا.
غير أنني أخشى ما أخشاه أن يقع مؤتمر جنيف ضحية لصفقات أمريكية روسية لا تحقق إلا ما يتقاطع مع مصالحهما وليس مصالح الشعب السوري والذي يبدو أن الأطراف الدولية بل والإقليمية لا تعيره الاهتمام الحقيقي وهو ما تجلى في التوافق بين واشنطن وموسكو بشأن تفكيك وتدمير ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية والذي يصب بالدرجة الأولى في خانة حماية أمن الكيان الصهيوني وهو غباء من النظام الذي لجأ إلى استخدام هذا النوع من أسلحة الدمار الشامل والذي كان يشكل نوعا من التوازن الإستراتيجي مع الكيان الذي يمتلك أسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية فأضاع على سوريا هذه الميزة.
ما زال أمام انعقاد جنيف بعض الوقت الذي يمكن فيه لكافة الأطراف أن ترتب أوراقها ومواقفها فيه، غير أن الكرة الآن في ملعب بشار الأسد، فإذا أراد أن يدخل التاريخ، فعليه أن يتخلى عن السلطة لصالح استمرار سوريا وأن تكف الأجهزة التابعة له عن تسريب تقارير تتحدث عن إمكانية ترشحه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء الفترة الحالية خلال العام المقبل وهو تطور سيشعل البلاد ويدفعها نحو المزيد من الانقسام والتمزيق.
لقد قتل وأصاب وشرد مئات الألوف وهو ما لن ينساه التاريخ له ولكنه قد يسجل له ميزة استجابته في اللحظات الأخيرة لأشواق شعبه بالرحيل والتخلي عن سلطة مستبدة عاتية جبارة كان الدم عنوانها الوحيد.
السطر الأخير:
هي البهجة العائدة
والرحلة إلى منتهى القلب
تزفه مسكونا بالأشواق وفرحة الحقول بالمطر
فكيف هي بعد السفر؟
لمن أرسل محبتي الآن؟
لعينيها أم للأنهار المقيمة بقسماتها
أم للقمر
طالعا من جبينها الوضاء
يغزل السكينة بروحي بغيثه المنهمر