لم يعد ممكناً خرق سقوف مطالب الفرقاء اللبنانيين وشروطهم المتعلقة بحل الأزمة اللبنانية التي عنوانها الفراغ الحكومي والمخاوف من الفراغ الرئاسي الآتي في ايار (مايو) المقبل بانتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، بل من تعذر إجراء الانتخابات النيابية المؤجلة أصلاً في الخريف المقبل.
حتى الاقتراحات التي يطرحها «الوسطيون» لم تعد قابلة للبحث فيها من قبل أي من فريقي الانقسام اللبناني الكبير الذي يزداد عمقاً، فهي اقتراحات تارة تُحسب لمصلحة أحد فريقي الصراع وانحيازاً له وأخرى تُحسب على أنها محاولات يائسة لا يمكن أصحابها ضمان تطبيقها لأن قرار التأزيم أكبر بكثير من هذه الاقتراحات ومن الساحة اللبنانية المحلية ومن النيات الحسنة.
وعلى عكس ما تتضمنه التصريحات والمواقف المعلنة والتي تستظل حاجة الناس الى الاهتمام بشؤونهم الحياتية والاقتصادية نظراً الى الضائقة التي ازدادت بفعل التأزم السياسي، من أجل تبرير دعواتها الفريق المقابل الى حلحلة عقد الأزمة، فإن الجمهورين المتقابلين لقوى 8 آذار و14 آذار لم يصبهما الملل من زعاماتهما السياسية وتمسكها بمطالبها وشروطها حيال مخارج الأزمة. بل ان الاستقطاب الطائفي والمذهبي بات سبباً لدى جمهور كل من الفريقين من أجل اتهام الجماعة الأخرى بالتسبب بالشلل العام والاهتراء الذي يصيب المؤسسات اللبنانية المعنية بانتظام حياة الناس وتلبية مصالحهم ومعالجة همومهم اليومية. ولا صحة لكل التبريرات التي يطلقها زعماء أي من الفرقاء بأن المواطنين اللبنانيين أخذوا يكفرون بالزعامات. والحقيقة هي أن هؤلاء المواطنين ما زالوا على ولائهم الأعمى للزعامات، ويذهب بهم هذا الولاء الى تحميل زعامات الفريق الآخر مسؤولية التردي المعيشي والاقتصادي والأمني، حتى إذا كانت زعاماتهم هي التي تتسبب به. لقد فعل التحريض اليومي والتعبئة المتواصلة في أبسط القضايا فعلهما في الحفاظ على الاستقطاب المذهبي والطائفي وفي وصوله في كل مرة الى ذروة جديدة. وفي كل مرة يشهد لبنان حدثاً جللاً يدفع البعض من قادة الرأي الى الأمل بفك الاستنفار المتقابل بين الجمهورين، لا تلبث الخيبة أن تلحق بهؤلاء.
وعلى رغم أن الكثيرين يراهنون على أنه عندما تحين اللحظة الإقليمية فإن التسوية التي يمكن أن ترتسم ستجبر الزعامات على تطويع جمهورها، كما حصل غير مرة، فإن ما بات مقلقاً هو أن اضطرار الزعامات والقوى المحلية لرفع السقوف أخذ يأسر هذه الزعامات والقوى أكثر، بحيث يصعب عليها التراجع عن شروطها. وأبرز هذه القوى في الفريقين هو «حزب الله» الذي يوجب عليه اضطراره الى تحريك الآلاف من مقاتليه الى سورية للدفاع عن النظام إظهار أقصى درجات التشدد في لبنان بموازاة انطلاق مرحلة التفاوض الإيراني – الغربي، ليحتفظ المفاوض الإيراني بكل أوراقه قبل أن تحين ساعة المساومات والتنازلات وتحقيق المكاسب.
إلا أن لعبة رفع السقوف تذهب بعملية الاحتفاظ بالأوراق والتشدد في الإمساك بها وتقود الى إبقاء لبنان خاضعاً لنتائج الصفقة الإقليمية الكبرى، مع ما يعنيه ذلك من استخدام ساحته للإمداد والدعم لمصلحة النظام السوري في مواجهته مع معارضيه، ما يقود بدوره الى رفع ذروة الاستقطاب الداخلي ويزيد الحساسيات المذهبية فلا ينفع حتى في ترجمة انتصارات مفترضة في سورية تسليماً من الخصوم في الداخل اللبناني بالمطالب التي يطرحها الحزب وحلفاؤه، بل يقود الى استسهال نقل الفوضى القائمة في سورية الى الداخل اللبناني، ويجعل الفريق المقابل متشبثاً بموقفه وبعدم تغييره. وبهذا يصبح اتهام قوى 8 آذار خصومها بأنهم يراهنون على تطورات خارجية تأتي لمصلحتهم في الداخل كمن يوقع نفسه في فخ هذا الاتهام ليرتد عليه إذا كان يصيب خصومه.
بلغ الوضع اللبناني حال الاستعصاء إذا كانت الحلول ستُترك لقواه السياسية الداخلية، وبات على الدول المعنية به، سواء الكبرى أم الإقليمية، أن تفتش عن جنيف – 1 وجنيف – 2 لحل أزمته، وإخراجه من وضع يقترب من تهديد اقتصاده ونسيجه الاجتماعي القابل للانفجار إذا استمر الصراع فيه على هذا المنوال. ولربما بات على هذه الدول، قبل أن تدعوه الى المشاركة في جنيف – 2، أن تجترح حلاً له، وصولاً الى أن تشكل له حكومته. وإلا ما نفع أن يقول السفير الأميركي في بيروت ديفيد هيل، إنه «لشيء مميز عندما تستطيع روسيا والولايات المتحدة والصين وأوروبا والأمم المتحدة وغيرها الاتفاق على شيء، وهم يتفقون على أن لديهم جدول أعمال مشتركاً للبنان منفصلاً عن أي تطورات في أي مكان في الشرق الأوسط، وبعيداً من الصراع في سورية»، إذا لم يكن يعني عزل أزمة الفراغ عن التفاوض الجاري حول سورية والمنطقة؟ وهذه مسؤولية موسكو مثل واشنطن.
وليد شقير/«جنيف» خاص بلبنان
17