ليس كافياً عقد اجتماع ثنائي لساعتين بين وزيري الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل والأميركي جون كيري لإصلاح ما يشوب العلاقة الأميركية – السعودية من توتر وانحسار في الثقة. إنقاذ هذه العلاقة من التدهور يتطلب عدم التظاهر بأن الأمور عادت إلى نصابها بعد اجتماع الوزيرين في لندن مطلع هذا الأسبوع لأول مرة منذ احتجاج المملكة العربية السعودية على السياسات الأميركية نحو سورية وكيفية تعامل الأمم المتحدة مع الملف السوري الأسبوع الماضي برفض عضوية مجلس الأمن. اختلاف المواقف في أكثر من ملف وقضية بات خلافاً عميقاً يحتاج إلى مراجعة جدية للتعرف إلى آفاق التفاهم واستحقاقات الاختلاف. فإذا كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد اتخذ قراراً استراتيجياً يقضي بتغيير في علاقة التحالف التقليدية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، هذا من حقه إذا رأى فيه مصلحة أميركية، إنما من حق الطرف السعودي أيضاً، بل من واجبه، التدقيق بعمق في ما يتطلبه التغيير في السياسة الأميركية من قرارات تحمي المصلحة السعودية والعربية. المصارحة ضرورية شرط ألا تكون مصارحة عابرة من أجل المصالحة السطحية. هناك مسائل يجب على الطرفين الخوض فيها بصدق – تلك المعنية بالقضايا الإقليمية مثل سورية وفلسطين، وتلك التي تتعلق بأدوار الدول الرائدة في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط برمتها. معادلة النفط مقابل الأمن تتخذ أبعاداً جديدة. وما أتت به إدارة أوباما من سياسات نحو الشرق الأوسط ليس اعتيادياً أو معتاداً. المهم أن الاحتجاج وحده ليس سياسة. فلدى كل من الدولتين أدوات عدة للتعبير عن الرضى أو عن الغضب إذا كان أحدهما جدياً ومتماسكاً في سياسات جديدة قائمة على الافتراق. لكن ما تتطلبه المرحلة الراهنة وما يبدو الطرفان أكثر استعداداً له هو محاولة الإصغاء للآخر لاستكشاف آفاق التفاهم على علاقة استراتيجية بنّاءة حتى إذا اختلفت قواعدها وباتت لها مقومات غير معهودة.
ليس هذا وقت انحسار العلاقة الأميركية – السعودية، لا سيما فيما تتنامى العلاقة الأميركية – الإيرانية بناءً على ما يُنظر إليه وأنه عهد الاعتدال بقدوم الرئيس حسن روحاني إلى الرئاسة في طهران. فالرئيس الإيراني وعهده الجديد ما زال تحت المجهر والاختبار. فإذا فشل الرهان الأميركي والغربي فعلى إيران الاعتدال سيترك ذلك أثره على العلاقة الغربية – الإيرانية ويسبّب انتكاسة للعلاقة التي أعطاها الرئيس روحاني أولوية كبرى وهي العلاقة الأميركية – الإيرانية. عندئذ يجب أن تكون المملكة العربية السعودية جاهزة لمثل هذه التطورات. أما إذا أثبتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية جديتها في التحوّل نحو الاعتدال وفي تبني خطاب سياسي ليس مبنيّاً على الهيمنة الإقليمية، عندئذ أيضاً تكون السعودية جاهزة للاستفادة والبناء على هذا التطور. فالمهم ألّا تتغيب لأنها غاضبة أو مُحبَطة، والأهم أن تكون جاهزة للسيناريوين.
إدارة أوباما تتحدث دوماً بلغة «النووي» عندما تتكلم عن إيران وهي تتجاهل عمداً التجاوزات الإيرانية في سورية وكيف أتت الحرب الأميركية في العراق لتعطي إيران فوزاً استراتيجياً ونفوذاً ضخماً داخل العراق. إدارة أوباما كما الإعلام والرأي العام الأميركي لا تكترث لما يمثل الأولوية القصوى للمنطقة العربية عندما يتحدث العرب بلغة رفض وفرض النموذج الإيراني من الحكم الثيوقراطي الديني على المنطقة العربية. فأميركا حكومة وشعباً لا تبالي بانشغال الطرف العربي بالأولوية «الإقليمية» – وليس «النووية» – لجهة التصدي للطموحات الإيرانية الصاعقة بدور لإيران خارج حدودها وفي داخل العمق العربي.
بكلام آخر، إن الولايات المتحدة قررت ألا تستوعب معنى الانتصار الإيراني في سورية، وإفرازات فوز إيران بسورية في المعادلة الإقليمية. بكلام آخر، اختارت الولايات المتحدة – رئيساً وإدارة وكونغرس وإعلاماً ورأياً عاماً – أن تدفن الرأس في الرمال كي لا تواجه استخدام النظام في دمشق الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين كما استنتجت، رامية بعرض الحائط مزاعمها الأخلاقية والتزاماتها الدولية. بكلام آخر، قررت الولايات المتحدة أنها لا تريد أن تحارب أو أن تنجرّ إلى حروب، فاختارت سياسة إرضاء كل من يرحمها من الحرب ويساعدها في تجنب الانخراط. فأميركا الانعزالية ارتأت أن مصلحتها باتت في إرضاء ايران ومباركة دعم طهران للرئيس السوري بشار الأسد بصرف النظر عما يعنيه انتصارهما إقليمياً وعما سيترتب على ذلك الانتصار لجهة المصلحة الأميركية البعيدة المدى.
الشكوك العربية في المواقف الأميركية نحو إحداث سورية ونحو الدور الإيراني في سورية يجب أن تستوقف صناع القرار الأميركي. لذلك، من الضروري لإدارة أوباما أن نتوقف عن الانزلاق في متاهات ما ترسمها لها الديبلوماسية الروسية الحذقة والديبلوماسية الإيرانية الناجعة في حنكة التفاوض وفنون الاستقطاب.
في البدء، ليت حملة المودة الإيرانية واستقطاب الاقتناع باعتدال جدي لأركان الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، صادقان وجديان. الاختبار يجب ألا ينحصر في المحادثات النووية. إن أولى محطات الاختبار يجب أن تكون سورية. لذلك، يجب على إدارة أوباما أن تكف عن حصر مستقبل العلاقة مع إيران في الأولوية النووية وأن توسع حلقة الاختبار لتبدأ حيث يمكن طهران أن تُثبت حسن النوايا فوراً وذلك في سورية.
تحديداً، إذا كانت إدارة أوباما جدية في مواقفها نحو سورية ونحو إيران، عليها أن تضع الدور الإيراني داخل سورية على الطاولة ومعه دور «حزب الله» في القتال إلى جانب النظام في دمشق. هناك اليوم قنوات تواصل بين واشنطن وطهران، وهناك حاجة ماسة للكف عن التظاهر برفض التباحث في الناحية الإقليمية حرصاً على مفاوضات الناحية النووية. فإيران تحارب في سورية عبر «حزب الله» وهي تنتهك قراراً لمجلس الأمن يحظر عليها، بموجب الفصل السابع من الميثاق، التورط عسكرياً خارج حدودها مباشرة أو بالنيابة. هذه ورقة اختارت واشنطن تجاهلها عمداً بحجة الفيتو الروسي في مجلس الأمن. اليوم توارى شبح الفيتو الروسي وبدأ عهد التواصل مع إيران. هذه فرصة لواشنطن لتتفضل بالتعبير عن مواقفها التي تتهم إيران بالتورط في سورية، أقله لتقول: «حان وقت التحدث عما تفعله الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سورية بما يتعارض جذرياً مع ما تريده الولايات المتحدة هناك. فليتوقف دفن الرؤوس في الرمال».
إدارة أوباما تبدو راغبة بأن يكون لإيران دور في مؤتمر «جنيف – 2» لإطلاق العملية السياسية الانتقالية حيث يتم إنشاء هيئة ذات صلاحيات إدارية كاملة تمثل الانتقال من النظام في دمشق إلى جديد تتفاوض عليه المعارضة السورية مع النظام الحاكم بناءً على ما تم الاتفاق عليه في «جنيف – 1» قبل أكثر من سنة ووقع فريسة التفسيرات الروسية والغربية المناقضة له.
الأمانة العامة للأمم المتحدة تبدو بدورها راغبة في صقل دور لإيران اعتقاداً منها أن الحل التفاوضي للمعضلة السورية يتطلب حتماً دوراً إيرانياً، وهي بدورها تتجاهل عمداً معضلة انتهاكات إيران لقرار ملزم لمجلس الأمن – وتقفز عليها – ظنّاً منها أن طهران تمتلك مفتاح تعطيل الحل السياسي إذا ووجهت بمسألة الانتهاك. بالتالي، ارتأت واشنطن والأمانة العامة للأمم المتحدة أن الحل السياسي للمسألة السورية يتطلب مراعاة طهران لدرجة مباركة الانتهاك الفاضح لقرار مجلس الأمن صدر بموجب الفصل السابع من الميثاق. وهذا خطير.
ما يوازيه من خطورة هو استعدادهما لتوجيه دعوة إلى إيران للمشاركة في «جنيف – 2» من دون تعهد مسبق من طهران بالالتزام بـ «جنيف – 1»، أي الالتزام بأن يكون الهدف البدء بعملية سياسية انتقالية من النظام الحاكم في دمشق إلى حكم جديد في سورية يتم التفاوض عليه بين النظام الحاكم والمعارضة السورية. كلاهما مطالب باشتراط ذلك. كلاهما مطالب بالتوقف عن الانزلاق في أحضان طهران بلا محاسبة.
المملكة العربية السعودية بدورها مطالبة بأن تنخرط جدياً في تمكين انعقاد «جنيف – 2» بمشاركتها هي وعبر التأثير في المعارضة السورية التي تمون عليها بالمشاركة. أولى محطات الدور الضروري لها يكمن في إعادة النظر في رفضها عضوية مجلس الأمن. فلقد عبرت الرياض عن احتجاجها على كيفية تعاطي الأمم المتحدة مع الملف السوري برفضها العضوية التي حصلت عليها عبر انتخابها كعضو في مجلس الأمن. الآن، من المفيد لها وللقضايا التي تهمها – سورية وفلسطين على السواء – أن تلبي مناشدتها العودة عن إعلانها رفض العضوية كي تنخرط جدياً في صنع القرار من داخل مجلس الأمن.
فالامتناع عن العضوية مسيء للقضايا التي تهم المملكة بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية، لا سيما أن ملف سورية عاد إلى الأمم المتحدة بدل أن يتحول إلى مقايضات أميركية – روسية. وفي الأمم المتحدة يمكن الديبلوماسية السعودية أن يكون لها نفوذ. الامتناع عن ممارسة هذا الدور ليس في المصلحة السورية. وبما أن الإبلاغ الرسمي لم يتم، من السهل للرياض أن تعود عن رأيها لتثبت أنها جاهزة لخوض المعركة الديبلوماسية المهمة لمستقبل سورية داخل الأمم المتحدة. ففي مجلس الأمن، مثلاً، تسعة أصوات للدول المنتخبة توازي الفيتو الذي تمتلكه الدول الخمس الدائمة العضوية. هناك يمكن الديبلوماسية السعودية أن تثبت ثقلها وتأثيرها في صنع القرار والتصدي لامتلاك القرار في الشأن السوري أميركياً وروسياً حصراً.
«جنيف – 2» مهم للمعارضة السورية مهما بدا أن الانخراط في تلك العملية السياسية الانتقالية سيكون لمصلحة النظام. فمجرد جلوس مندوبين عن النظام إلى طاولة البحث في بديل عنه هو في مصلحة المعارضة السورية. مجرد وجود الأمم المتحدة راعياً للعملية السياسية الانتقالية يمثل حماية للمعارضة في خضم محادثاتها عن بديل للنظام.
فمؤتمر جنيف يعني التغيير في سورية تحت رعاية دولية. انعقاد المؤتمر يعني انطلاق زخم سياسي من أجل التغيير ضمن شراكة دولية ودور فاعل للأمم المتحدة. ومن مصلحة المعارضة الإصرار على الإطار الدولي المتاح في «جنيف – 2». إنه زخم يجب عدم التفريط به. زخم يتيح الفرصة لمحاسبة كل المعنيين، بما في ذلك الإمساك بقدمي روسيا والولايات المتحدة فوق النار كي يقوما بدورهما بالإمساك بأقدام النظام في دمشق ومن يدعمه في طهران لإثبات الجدية في شأن العملية السياسية الانتقالية إلى جديد في سورية.