انها القصة القديمة تتكرر مع اميركا. في كل مرة نكتشف انها في واد ونحن في واد آخر… وانها تتصرف مدفوعة بحسابات ومصالح مباشرة، ولا تعمل بوحي مبادئ ومفاهيم يتقصد قادتها ان يصيغوها في جمل مبهمة للاستهلاك العام، ويمكن ان تنطبق على كل وضع وكل حين، لكنهم ايضا يبيعونها الى العالم باعتبارها «نبراسا» لا حياد عنه في سياساتهم الخارجية.
وفي كل مرة، يعاود العرب المكتوون بنار الاصدقاء اكثر من الاعداء، وضع ثقتهم في الديبلوماسية الدولية، لأنهم يدركون ان خيار المواجهات في المنطقة يعني التدمير والفوضى من دون تحقيق المرتجى، ويمكنه ان يطيح في ايام ما تطلب تحقيقه عقودا، وان يعيد عقارب الزمن الى الوراء بعدما تطلبت زحزحتها الى الامام جهودا هائلة.
هناك بالتأكيد حدود لقدرة الديبلوماسية الدولية على معالجة الازمات وايجاد الحلول لملفات معقدة ومتشابكة اقليميا ودوليا مثل القضيتين الفلسطينية والازمة السورية، لكن ثمة فارق جلي بين الالتزام الجاد بالتوصل الى حل منطقي حتى لو قارب اجتراح المعجزات، وبين مجرد رفعه شعارا لا يوصل الى اي نتيجة.
ففي مفهوم «الحل السياسي» في سورية الذي تسعى اليه موسكو وتتبناه واشنطن خلل واضح يساوي بين الضحية والجلاد، بل يفضل الاخير ويجهد لادامة عمله وحمايته من المحاسبة.
ويستند الروس في موقفهم الى رغبة اميركية معلنة في تفادي اي مواجهة لا تتعلق بأمن الولايات المتحدة المباشر، حتى لو عرضت حلفاءها واصدقاءها لمخاطر شتى، فيصعدون حملة التعمية المقصودة التي تضع المعارضة السورية كلها في كفة التشدد والتطرف و»القاعدة». ويبتلع الاميركيون والاوروبيون الطعم حتى يصبح هدف التسوية المفترضة ليس تشكيل حكومة انتقالية سورية تمهد لازالة رؤوس نظام الاسد واعادة تدوير جسده، مثلما نص على ذلك اتفاق جنيف-1، بل اثبات «اعتدال» المعارضة وقدرتها على «طمأنة» الغرب، وكأن المشكلة اساساً في المعارضة وليست في النظام.
قد تكون هناك ثغرات كثيرة وكبيرة في تركيبة المعارضة السورية وادائها، يعود معظمها الى قلة الخبرة السياسية والعملية، بعدما ظل المعارضون حوالى نصف قرن عرضة للقتل والاضطهاد، او الى تمسك بعض فصائلها بافكار جاهزة ومعادلات لم تعد قابلة للتطبيق. لكن هذه المعارضة رغم تشرذمها لا تزال تمثل الغالبية الساحقة من السوريين بمن في ذلك الخاضعين لعسف اجهزة الامن في المناطق غير المحررة، وتعكس تطلعاتهم الى بناء دولة حريات وديموقراطية، وما الضغوط التي تمارس عليها للجلوس الى طاولة واحدة مع «السفاح» كما تسميه، سوى انقلاب على ارادة السوريين وتشكيك في قدرتهم على الاختيار الصحيح.
رفعت المعارضة في اجتماع «اصدقاء سورية» في لندن اول من امس «لاءات» تتمسك برحيل الاسد ورفض مشاركة ايران ما لم توافق على مضمون جنيف-1. واستجاب وزراء الخارجية الاحد عشر لرغبتها في تأكيد عدم وجود دور للاسد والمقربين منه في المرحلة الانتقالية وما يليها، لكن العبرة في الالتزام، لانه يخشى مرة اخرى ان يتراجع الاميركيون عن وعودهم كما فعلوا ابان التهديد بتوجيه ضربة عسكرية الى قوات النظام، طالما انهم يعتبرون الوضع السوري ورقة للتفاوض مع ايران وروسيا.
حسان حيدر/لا أحد يثق بأميركا
20
المقالة السابقة