في تاريخنا افتقرنا وما زلنا نفتقر للتاريخ «التأريخ» الاجتماعي الذي ظل بعيداً عن الأضواء التي جرى تسليطها على التاريخ السياسي وتحديداً على تاريخ الاشخاص والزعماء من قادة وملوك وسلاطين وخلفاء وأمراء حيث كتب التاريخ العربي كله من خلال سيرتهم وانتصاراتهم أو هزائمهم وحسب تتبع فترات حكمهم أو السنوات التي عاشوها وهكذا كان تاريخنا في تدوينه يأخذ بعداً أفقياً يتعلق بالزمن وليس بالحادثة في اطارها الاجتماعي والثقافي.
حين تقرأ على سبيل المثال بغداد فإننا نقرأها من خلال الخلفاء العباسيين على تتابعهم ومن خلال بلاطاتهم حيث الأضواء على المأمون أوالرشيد أو المعتصم وهكذا..وحتى حين تقرأ دمشق قديماً فإننا نقرأ الأمويين من معاوية ويزيد وعبد الملك والوليد وهكذا وقد بقي هذا المنهج إلى فترات متأخرة قبل أن يفطن المؤرخون العرب لشكل آخر من كتابة التاريخ وهو التاريخ الاجتماعي أو الثقافي أو تاريخ المعارضة أو الحركات السياسية أو الدينية التي لم تكن جزءاً من السلطة.
على سبيل المثال كنت اتطلع وأنا أقرأ مثلاً بغداد من خلال هارون الرشيد أن أتعرف على بغداد الناس العاديين والعمال والمهرة والجنود أو الصناعة أو العادات والتقاليد أو الطبقات الاجتماعية او الفقر أو الغنى..لا يجد الباحث في ذلك الا النزر اليسير فلا احد مهتم بتدوين ذلك وتاريخ ذلك ومن أراد لاسمه أن يظهر كان عليه أن يقترب من السلطان أو يعيش في دائرته وبالتالي حرم تاريخنا من أن ينقل لنا الكثير عن حضارتنا ومسيرتها وعن الناس الذين يضعون التاريخ..
لم اجد وانا أقرأ لمعرفة ما اريد من تاريخ اجتماعي سوى الشعر أو بعض من كتبوا في الوصف ففي شعر ابن الشمقمق وهو شاعر مغمور شيئاً من التاريخ الاجتماعي وفي الكتابة عن القرامطة ما يستوقف من نهجهم وفكرهم ومعارضتهم
وحتى حين كان يقال انه في زمن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الملقب بالراشدي الخامس انه لا يوجد لمن تعطى له الزكاة لعدم الحاجة اليها في وصف المجتمع أنه مترف كما جاء في قصص جورجي زيدان للناشئة وهي القصص التي اعتمدت لمناهج المدارس المعاصرة. نجد في الشعر الأموي وحتى عند جرير الشهير والمولود في منطقة حوران جوار اربد شعراً يكذب ما جاء في قصص جورجي زيدان حين يناشد الخليفة باسم جماعته الجائعة ضرورة أن يعطيهم لانهم مسلمون أحناف يصلون ويتعبدون ولكن يجوعون.
«أخليفة الرحمن انا معشر….حنفاء نسجد بكرة وأصيلا»
وهكذا ولذا فإن مصادر التاريخ الاجتماعي في العالم العربي القديم قليلة ومعدومة.
أسوق كل ما كتبت لاحتفي بجهد الدكتورة عايدة النجار في منهجها وكتبها الحديثة وهو منهج أخذ به كثير من المؤرخين العرب المعاصرين بعد أن أصبح هناك امكانية كبيرة لنقل كل حركة المجتمع وتفاعلاته إلى أوعية المعلومات وإلى الورق والعودة لاحياء الكثير مما تناثر في الماضي..
الدكتورة عايدة كتبت أكثر من كتاب أهمها عندي (القدس والبنت الشلبية) كتبت فيها تاريخ اجتماعي للمرأة المقدسية ورسمت وصورت بدقة تفاصيل الحياة في القدس خلال قرن مضى من الزمان مع موروث هذا القرن وما جرى ترحيله من عادات وتقاليد وغناء ومواسم وكذلك البيوت وزخرفتها ونباتاتها وأنواع الأطعمة والأشربة وكل ما كان يجري تحت الأضواء أو حتى بعيداً عنها من حياة الناس في فرحهم وترحهم..لقد بذلت الدكتورة النجار في الجمع والتتبع والتأصيل وكذلك جمع الصور واللقاءات والتوثيق جهداً جباراً ما كان يتأتى لها لولا جلدها الموصول وحبها العميق لبلدها وايمانها بتوظيف التراث الاجتماعي في تمتين الصلات وربط الذاكرة الحية للشعوب لتمسك بهويتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها خاصة حين تكون التحديات كبيرة وعاصفة بحجم تحدي الحركة الصهيونية لشعب فلسطين الذي جرى اقتلاعه وتبديده واحتلال أرضه وهدم بيوته وحتى العمل على طمس هويته العربية وتهويد واسرلة مكونات ثقافته وآثاره وتراثه.
«البنت الشلبية» نصوص تاريخية اجتماعية مبهجة تسلمك صفحاتها واحدة وراء الأخرى في نصوص منقولة أو مكتوبة أو شعرية أو مصورة..
ولأن المكتبة العربية أمام التحديات تفتقر لمثل هذا فإن المطلوب تخصص مقعد للدراسات وللبحث الفلكلوري أو الشعبي في جامعاتنا لأن ذلك أوثق وأهم من استمرار اجترار وقائع التاريخ الجامد من خلال وقائع لا تصمد في البال والوجدان والخاطر..أدعوا الدكتورة لمواصلة عملها المثمر.
alhattabsultan@gmail.com