الحضارة الإسلامية ترسي معالم فلسفة التنافس بين الأفراد والجماعات، في كل مجالات العمل والبناء، وفي جميع مسارب تقديم الخدمة، وأعمال الخير على صعيد المجتمعات الصغيرة والكبيرة، وبذل أقصى درجات الاستطاعة على البذل والعطاء، مما يسفر عن تطوير ما لدى الإنسان من ملكات ومواهب مختلفة ومتعددة، الذي يؤدي حتماً للابداع والابتكار في تسخير ما في الكون من قوى وأسرار كثيرة وعديدة، تحتاج الى علم ومعرفة وبحث ومثابرة.
فلسفة التنافس تختلف اختلافاً واسعاً عن فلسفة الصراع؛ من حيث الروح والجوهر، ومن حيث الوسائل والأدوات، ومن حيث النتائج والثمرات، وان كان هناك بعض التقاطع في مسائل البحث عن عوامل استنفار ما لدى الأفراد والجماعات من قوى كامنة، والإسهام في الحض على تطوير الواقع من أجل تحقيق النجاة من براثن الهزيمة والضعف والفناء.
اشعال بذرة التنافس ضرورة على صعيد تلامذة الصف الواحد، لان الإنسان مفطور على حب الخير، والاستزادة من الفضل، ويتوق الى التقدم عن اقرانه في تحصيل الدرجة الأعلى، فهذا أمر محمود ومطلوب، إذا تم في نطاق مشروع، وضمن دوائر القيم النبيلة، التي تخلو من الغش والتدليس والخداع والكذب، والرشوة، وتخلو من الحسد والغل والحقد والبغض، الذي يؤدي الى الحاق الضرر بالاخرين، أو إلى تمني زوال النعمة وما يستتبع ذلك من أخلاقيات مذمومة وتصرفات غير مقبولة، مما يحتم علينا جميعاً ان نتعاون في إرساء ثقافة التنافس، التي تخضع لمعايير العدالة وضوابط النزاهة، المتفق عليها إتفاقاً صارماً وحاسماً، لا يقبل الجدل أو المراوغة، ولا يقبل تجاوز قواعد التنافس الشريف بأي حال من الأحوال.
في هذا الصدد يجب أن نبتعد تماماً عن فلسفة الصراع بين المكونات الاجتماعية او الاحزاب السياسية داخل مجتمعاتنا، تلك الفلسفة التي تدور بجوهرها حول الاستحواذ على أدوات القوة واحتكارها من جهة، وحول إقصاء الآخر وتهميشه ونفيه من الوجود من جهة أخرى، كما أن الاستغراق في فلسفة الصراع يؤدي الى تجاوز قواعد المشاركة في الشأن العام، ويؤدي الى عدم قبول الآخر وعدم الاعتراف به، ومن ثم استبعاد التعاون معه في تحمل مسؤولية إدارة الدولة، وتسيير أمور المجتمع، وهذا سوف يقود الى استخدام القوة، واللجوء الى العنف والتصفية الجسدية، الذي سيؤدي حتماً الى هدم المجتمعات وتوقف الحياة، فضلاً عن توقف عمليات التجديد والتطوير في جميع المجالات، ويؤدي الى تعطيل العقل الإنساني عن القيام بدوره في البناء والتنمية.
نحن بحاجة ماسّة الى إرساء فلسفة التنافس في حياتنا السياسية والحزبية، و نبتعد عن فلسفة الصراع، مما يحتم علينا جميعاً إرساء تقاليد التنافس العادل وأعرافه، ووضع ضوابطه ومعاييره، بحيث تلتزم المنهجية العلمية الموضوعية السليمة، التي تسير في دروب العدالة، وتهدف الى حفظ قيم الحرية والكرامة، وتحترم العقل، وتقدر الإبداع والتجديد، وتنفر من كل وسائل التسلط وأساليب القهر، وتبتعد عن مصادرة الإرادة، ولا تحجر على العقل والفكر، مهما كانت درجة الاختلاف والتباين الفكري والسياسي.
فلسفة التنافس تحتاج الى رفع مستوى التعليم، وتطوير مستويات الوعي الجمعي لدى الأجيال، وزيادة منسوب التسامح والتغافر بين الأفراد والجماعات، والبحث عن صيغ التعاون في خدمة الشأن العام، والمشاركة في المسؤولية، والتشجيع على الحوار الجماعي الحضاري، الذي يرفع معدلات احترام الرأي المخالف، والتعامل مع صاحبه باللين والسهولة وحس الإصغاء، والتعلق بهدف البحث عن الحكمة والصواب، وتقديم المصلحة العامة.
لا يتحقق كل ما سبق الاّ من خلال التدريب والمعايشة والتطبيق، مما يحتم علينا التفكير في جعل ذلك مادة علميّة؛ يتم تدريسها وتعليمها في المدارس والجامعات، وإخراج ذلك الى حيز الوجود والممارسة من أجل خلق جيل جديد قادر على إدارة الاختلاف، والاستثمار في التنوع والتعددية، عبر تنافس شريف منضبط وعادل.
د.رحبل غرايبة/تنافس لا صراع
14
المقالة السابقة