لعقود مريرة تتالت، خبر الفلسطينيون ملاقاة العيد وهم عزلًا يرسفون في أسار الاحتلال، وأن يستقبلوه وهم في حال المستفرد به الذي يتعرض لمختلف محاولات سحقه، ماديًّا ومعنويًّا، تحت وطأة نيره الثقيل الغاشم. عقود توالت تأتيهم سنواتها بالمناسبة فيحتفون بها وهم يواجهون أشرس وأخبث أنواع الاحتلالات التي عرفتها البشرية ومرت بها الشعوب أو خبرتها الأمم، ويصمدون ويناضلون في ظل ظروف عسفه القهرية الموجعة. وفي حين كان غالب من هم سواهم يستقبلون العيد بفرح الأمل بما يبهج فيه، أو المتفائل المستبشر ببركة قدومه المرتجاة، ظل لا يلقاهم إلا وكأنما ليشاركهم فحسب مرارات ومكابدات واقعهم الحزين، وألا يودِّعونه إلا وهم يأملون بأن يعود لهم وهم على غير مثل الحال الذي غادرهم وهم فيها.
هذه المرة مر الأضحى على الفلسطينيين ليجدهم ليسوا على تلك الحال التي كانوا فيها فيما سبق من أعوام فحسب، بل والأسوأ منها. أرضهم من حولهم تنهب يوميًّا وتسرق من تحت أقدامهم وأمام أعينهم، والحصارات الإبادية الرهيبة تطبق بلا رحمة على أنفاسهم، ودمهم المُسترخص المستباح يسفح بلا حساب ويهدر دون محاسبة، وحرماتهم تنتهك وكراماتهم تمتهن وحريتهم وتزهق، وكله وحيث لا من نصير أو مجير أو مغيث … جاء هذه المرة والعالم كعهده، أي وكأنما هو في وادٍ آخر. بعيده وغريبه، هو إما المشارك المباشر أو غير المباشر في ديمومة محنته كراعٍ داعم لأعدائه المحتلين، أو متستر مغطٍّ لجرائمهم، أو في حال من لا يعنيه ما يحل بهم، أو هو اعتاده فلا يلتفت إليه … والقريب الشقيق الذي هو البين حالين، المنشغل بهمومه وأولوياته التي زاده منها هبوب رياح سموم الفوضى الخلاقة التي يضرب عجيجها راهنًا في أصقاع دنيا العرب مغارب ومشارق، أو المستغرق المتلهي ببائس نزاعاته ونزعاته وخلافاته ومماحكاته القطرية المستشرية، والتي عليها وبها، إلى جانب لجوء بعضه لضروب التبعية والارتهان للغرب المعادي، يعتاش غالب نظام الأمة الرسمي المهترئ والآسن ويضمن استمراريته … وإما من انتهج، وللأسباب المذكورة أو من دونها، سبل إشاحة الوجه عما يجري للأشقاء ونفض اليد تحللًا من التزامه المستوجب تجاه قضية قضايا أمتة المركزية في فلسطين، بل تواطؤ، وأقله بصمته، بغية الخلاص من أعباء ومستحقات هذا الالتزام، ليقترب في بعض حالاته من شبه التحالف الموضوعي مع المحتلين.
هذا العيد يغشى الفلسطينيين وقد تفاقم سيء الحال وصعَّد المحتلون فزادوا من سوءه المعهود، والأمثلة عديدة نكتفي منها بإيراد بعض ما رافق حلوله ووقفة حجيجه على عرفات لا أكثر، كاقتحام مجاميع من المستعمرين لباحات أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين من باب المغاربة ليرفعوا فيها علم الاحتلال تحميهم وتسند عربدتهم الموجهة والمدروسة والمبرمجة أعداد كبيرة من القوات الخاصة، وأدت مجموعة أخرى طقوسًا تلمودية عند باب الرحمة، كما وكُشف عن مخطط لهم لبناء كنيس على ثلث مساحة الحرم، وعلى مقربة في المدينة الأسيرة طعن مستعمر فتاة مقدسية نقلت على أثر فعلته للمستشفى، واعتدى آخرون على ممتلكات المواطنين في الشيخ جرَّاح وأمعنوا فيها تخريبًا. هذا في بيت المقدس، أما في أكنافه، وفي إطار تهويدها الجاري، فأخطرت سلطات الاحتلال تسع عائلات في وادي المالح بمنطقة الأغوار بمغادرة منازلها في مهلة لا تتجاوز ظهيرة يوم الوقفة، وفي سياقات الغارات والمداهمات وما يتبعها عادة من اغتيالات واعتقالات، كان ما شهدته مدن طول كرم ونابلس ورام الله والخليل، والذي انتهى باعتقال 16 مواطنًا. ولا يمكن الحديث عن عيد الفلسطينيين في الضفة دون التعرض لحالهم في قطاع غزة المكابد لسنوات الحصار الإبادي البشع بشقيه الصهيوني والعربي، أو أنباء متواصل ضروب البطش الذي يلاقيه فلسطينيو النقب أو يعانيه إخوانهم في المثلث والجليل أو من تبقى منهم في يافا، أو ما يواجهه فلسطينيو المهاجر ومخيمات الشتات.
… وإذ أتاهم العيد، فهناك خشية حقيقية من أن تسفر المفاوضات المكتومة الجارية بين الأوسلويين والصهاينة برعاية الأميركي عن تنازلات تصفوية متوقعة من شأنها تصفية القضية، يسهم في تمريرها راهن المناخات الدولية والإقليمية والعربية السائلة، والانسداد الموضوعي لأفق ما يعرف بالمصالحة الفلسطينية المستحيلة لغياب إجماع الساحة على برنامج حد أدنى وطني مقاوم يوحدها، ويضع حدًّا لمتواصل الانجراف الأوسلوي في المنحدر التصفوي والغرق في مستنقع مفاوضاته العبثية المجرَّبة على مدار عشرين عامًا، هذا الذي أدى بالساحة والقضية إلى مثل هذه الحالة البائسة التي يمر هذا العيد عليها ليجدها فيها ويتركها عليها … وما الحل؟!
لقد بلغ السيل الزبى، وبات الحال قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، وهذا ما يرجحه العدو ويقلقه ويستعد إليه، وكثيرون ممن كانوا يتوقعون اندلاع الانتفاضة الثالثة هم الآن باتوا في حكم المتأكد من اندلاعها الوشيك … هل تسمح الظروف الاحتلالية القاهرة، وفعالية التنسيق الأمني الأوسلوي مع الاحتلال، وتحوطات سلطة مرتهنة وترى في أي انفجار شعبي نهايتها، باندلاعها؟ الجواب، وهل من خيار سواها؟؟!!
عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني