إن ما يهز أركان المجتمع المصري اليوم وما يزعزع استقرار ليبيا وما يؤجل وفاق تونس بل وما يدمر سوريا العزيزة هو من وجهة نظري المتواضعة افتقاد النخب السياسية من إسلامية وعلمانية إلى ثقافة الدولة أو كما يسميها شيوخنا الأفاضل (فقه الدولة) وتلاحظون معي كيف تتخبط هذه النخب في الصراعات الأيديولوجية والتناقضات الحزبية وتؤثث بلاتوهات الفضائيات بالتجاذبات العقيمة حول جنس المجتمع (مثل جنس الملائكة) وحول هوية الشعب وحول دسترة القيم التي يؤمنون بها مع إلغاء كل رأي لا يعجبهم وإقصاء كل وجه لا يرتاحون إليه. فظللنا بعد ثورات الشباب العربي التلقائية والتي لم تكن لها قيادات نراوح مكاننا في نقطة الصفر بل نزلنا دونها في عديد المجالات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وتقهقرت درجات تصنيفنا في المحافل المالية الدولية وفقدنا ثقة الجار والصديق بما ارتكبناه من أخطاء وبلغ الأمر في مصر إلى تبرير الانقلاب بل وتقديمه كوصفة جاهزة لإنهاء عرس إرادة الشعوب بالدبابة والمدفع كما بلغ الأمر في ليبيا باختطاف رئيس حكومة (بحاله) يوم الخميس الماضي ثم إعادته سالما لأهله وقصر حكومته من ألطاف الله بعبده وبلغ الأمر في تونس بانفضاض مؤتمر للحوار منذ افتتاحه فالجميع “يصرح” و “يزيد ويقص” و “يطلع ويهبط” و “يبيع ويشري” في حلقة مفرغة وفي فضاء افتراضي كأنما دخل كل فريق فقاعة كالشرنقة لا يبرحها فهو لا يسمع ما يقال خارجها ولا يسمعه الناس خارجها فالحوار انتهى إلى مهرجان بهلواني فيه الشماريخ المدوية والموسيقى الصاخبة لا غير.
واليوم حين نتأمل في نتائج حكم من جاءت بهم الثورات لابد أن نقر بالفشل مهما بررناه وبالتلعثم مهما فسرناه وبالفوضى مهما زيناها ولا نجد سببا جوهريا لخيبة مسعانا سوى ماسماه الدكتور سالم بوخداجة استهانة النخبة بالدولة (جريدة الشروق التونسية 3 أكتوبر 2013) فالاستهانة بالدولة هي الظاهرة التي نسجلها في تونس ومصر وليبيا واليمن ولعل النخبة التي أفرزتها تلك الثورات تشبعت بثقافة المعارضة والسجون والمنافي وهي ثقافة صنعت من نلسن مانديلا رجل دولة ومن كثير من معارضينا رجال جدل عقيم وعجز مقيم. وأنا لا أفهم كيف يتكلم مثقف ديمقراطي قضى جزءا من حياته مدافعا عن حقوق الإنسان عن دولة بلاده واصفا إياها بالخراب وهو اليوم في أعلى سلطة في نفس هذه الدولة. واكتشفت أن هذا المناضل لا يفرق بين الدولة والنظام (بين دولة قائمة ومستمرة يسيرها رجال أكفاء ومحترمون وبين منظومة فساد منحصرة في مافيات الأصهار والمال الحرام) فالدولة التونسية مثلا أو المصرية هما مؤسستان ظلتا رغم منظومة الفساد والاستبداد قلعتين صامدتين لم تهزهما عواصف الفاسدين والمفسدين واستمرت في خدمتهما أجيال من التوانسة والمصريين فتوفر عبر الزمن المتقلب نصيب من الأمن وقبض الناس رواتبهم الشهرية ودافعت عنهم منظمات نقابية فازداد دخلهم وفتحت الدولة هنا وهناك روضاتها ومدارسها ومعاهدها وجامعاتها في وجوه الأجيال المتعاقبة كما أن الدولة الوطنية في تونس وفي مصر وفرت المستشفى ولو كان ناقص التجهيزات ومهدت الطريق ولو كان ذا حفر وأسست السدود والطرقات وعوضت المواد الأساسية الغذائية على مدى عقود. هذه هي الدولة التي راكمت قرونا من تجارب إدارة حياة الناس وسلمت من الدمار ولكن نخبنا العلمانية والإسلامية اعتبرتها خرابا يبابا وقررت تعويضها في لحظة فتنة الحكم ودوخة السلطة بارتجال الهواة وتعيين الموالين العاجزين مكان الأكفاء المحايدين ظنا منها أن الحياة تبدأ من وصول هؤلاء الثوار إلى السلطة وأن لديهم وصفات سحرية لتسيير المجتمع بالوعود والشعارات. وكم مرة نصحت شخصيا بعض الحكام الجدد أن يخفضوا منسوب الحقد على من تولى المسؤوليات قبلهم في الإدارة ولم يخالفوا قانونا ولم يعتدوا على الناس ولم ينهبوا مالا ولم يهتكوا عرضا وقلت لهم لا تهينوا من تحمل الأمانة قبلكم بالهمز واللمز فتنعتوهم بوصمة الفلول والأزلام فتفقدوا بفقدانهم كنزا من الخبرة وتسيير الإدارة والتعاطي مع الملفات. وسمع النصيحة بعضهم بينما نعتني البعض الأخر بأني من الفلول وألحقني بالأزلام!
إن ما تحتاجه هذه المرحلة من حياة التوانسة والمصريين والليبيين هو التحلي بثقافة الدولة أي الحوار حول أقوم المسالك لتأسيس الدولة الجديدة العادلة القوية المنيعة لا على أنقاض الدولة البورقيبية أو الناصرية الساداتية المباركية بل على أسسها لأن هاتين الدولتين كانتا الحاميتين للمجتمع حتى من الاستبداد والظلم لأن فيهما رجالا لديهم أخلاق وفيهم رحمة للمواطن بقطع النظر عن سلوك من هم في قمة السلطة فعبثوا بها واستغلوا الوطن وسلبوا خيراته.
لو نقرأ نتائج فشل المسار الديمقراطي في مصر وتعثره في تونس وانهياره في ليبيا بعيون الموضوعية والمعرفة لاستنتجنا بأن مسؤولية هذا الإحباط تقع على جميع النخب لأن الرأي العام في هذه المجتمعات مجمع على أن النخب أخطأت التشخيص لمعضلات الناس فأخطأت العلاج وعوض تركيز الاهتمام على استعادة هيبة الدولة العادلة القوية وحصانة القانون ومناعة الحقوق ضمن تلك الدولة الجديدة الخارجة من رحم ثورات الحرية والكرامة والشغل انطلقت النخب من منطلقاتها الحزبية الشوفينية الضيقة وأيديولوجياتها المحنطة وانصرفت إلى الجدل العقيم ناسية أن ثقافة الدولة تقتضي الحفاظ على مكاسب دولة الاستقلال وقراءة التاريخ بعيون اللحظة الماضية التي اتخذت فيها قرارات والتحلي بفضيلة الاعتبار بتاريخ تلك الدولة المؤسسة للأوطان بعد نيل استقلالها السياسي والإداري من أجل استكمال ذلك الاستقلال بفرض سيادتنا على مصيرنا سياسيا وثقافيا واقتصاديا ومن بعد برمجة الوحدة الإقليمية ثم القومية والوصول إلى وحدة إسلامية ممكنة لا من باب العقيدة بل من باب الضرورة كما فعلت القارة الأوروبية منذ خمسين عاما حتى بلغت مرحلة القطب الموحد وهو أكبر من الدولة القومية. آخر دعوانا اللهم ارزق نخبنا صفاء السريرة وحسن البصيرة.