الحج في هذه الأيام، رغم ما فيه من متاعب ومشاق ومعاناة، أصبح نزهة بالمقارنة مع الحج في الأيام الغابرة، ولا أقصد قبل قرون، وإنما في بدايات القرن المنصرم، حيث لم يكن هناك طائرات، ولا حتى سيارات، بل كان الناس في الغالب يحجوّن على الجمال، وعلى العربات التي تجرها الخيول.
كنا نجلس أطفالاً نستمع لروايات الحج، وما تحويه من قصص ومغامرات، وأحداث ووفيات، وما كان يتعرض إليه المسافرون من أخطار وحوادث سرقة وأعمال سطو من عصابات اللصوص وقطاع الطرق، ولذلك كان عدد الذين يؤدون هذه الفريضة قليلا جداً، وكان الحج محصوراً على بعض الميسورين المتدينيين، الذين تتاح لهم هذه الفرصة كل عشرة أو عشرين سنة، ولذلك ما زال بعضهم يحتفظ بلقب (دار أبو الحجي) بسبب أنه استطاع أن يؤدي هذه الفريضة في السنوات الأولى من القرن المنصرم، وما زال الناس يتداولون قصة حجّه النادرة.
ما زلت أذكر حديث جدتي رحمها الله عندما كانت تروي قصة حجها، حيث رافقت أباها وأعمامها وبعض أقاربها في رحلة الحج على الجمال والخيول، وكانت بنتاً شابة صغيرة وتقول أنها انطلقت مع القافلة مشياً على الأقدام، ومشوا بمحاذاة البحر الأحمر وصولاً إلى «جدة».
لقد شهدت وداع أول قافلة حج في حياتي انطلقت من قريتي عام (1966)م حيث كان عمري وقتها تسع سنوات وما زلت أذكر خروج القرية بكاملها لشهود هذا الحدث المهم لوداع الحاج «أبو شقرا» وعائلته، وكان هذا اللقب يطلقه أهل القرية على والدي رحمه الله، وتم تسيير موكب مهيب من الرجال والنساء والصغار والكبار والمسلمين والمسيحيين، يحملون الأعلام، ويصدحون بالأناشيد والمدائح النبوية، ويعلو صوتهم بـ»طلع البدر علينا»، وسار الموكب عبر الطريق الترابية التي تربط القرية بالشارع الرئيسي المعبّد الذي يشق الغور طولاً قادماً من اربد نحو الجنوب ويتجه الى نابلس.
تم تحميل الحجاج في سيارة شحن كبيرة، مغطاة بـ»الشادر» لتغطية الركاب وحمايتهم من رذاذ المطر حيث كان الحج وقتها في فصل الشتاء القارص، وكان صندوق السيارة الخلفي مكان جلوسهم ونومهم وأكلهم وشربهم، على طول الطريق نحو الديار الحجازية.
عندما وصل الحجيج «بطن الغول» الرملية لم تكن الطريق معبّدة، مما يجعل معظم السيارات تغوص في الرمال، وهذا يحتم على الركاب أن ينزلوا من سياراتهم للدفع حتى يتم تخطي تلك البقعة، تحت لهيب الشمس الحارقة.
استغرقت الرحلة ما يقارب الأربعين يوماً، ولكن الناس أعربوا عن سرورهم لقصر عمر الرحلة، قياساً إلى ما كانوا يسمعون عن الرحلات السابقة، ولقد خرجت القرية كلها مرة أخرى لاستقبال الحجاج القادمين، وكان قدومهم أشبه بيوم العيد، حيث أغلقت المدرسة أبوابها، ولم يذهب الناس إلى مصالحهم، احتفاءً بهذا الحدث. وأخذ والدي يستعد في العام الذي يليه للذهاب بالعائلة إلى القدس من أجل القيام بما كان يعرف (تقديس الحجة)، ولكن العام القادم شهد حرب الأيام الستة التي أنتجت أكبر هزيمة للجيوش العربية عام 1967م. ولم نستطع الذهاب للقدس وتعطلت رحلة التقديس حتى هذا اليوم.
رحيل غرايبة/بعض روايات الحج
19
المقالة السابقة