هناك مخاض دستوري تشهده مصر وتونس وليبيا، وستتبعها سوريا، عاجلا أم آجلا. ويبدو أن جهات تدفع لأن تكون الصبغة الإسلامية هي الغالبة على مواد هذه الدساتير، والسعي لتثبيت ما يشبه المادة الثانية من الدستور الكويتي أو رفعها، كما هو في الدستور التركي، أو تخفيفها، وكما هو في الدستور التونسي القديم، وبالتالي ستتأثر حياة شعوب هذه الدول سلبا أو إيجابا، تبعا لما ينتهي إليه ذلك المخاض، وهذه ضريبة على الشعوب الجاهلة في عمومها، دفعتها إلى أن تعرف أن الفكر الديني لا يقبل بالديموقراطية ولا بالتعددية في مفهومهما الحديث، وبالتالي فلا مناص من القبول بدستور علماني عصري يغطي بعدالته الجميع، فبديل ذلك تطبيق الحدود على الكفرة والمشركين، من مواطنين وغيرهم، وما يتطلبه ذلك من حكم فردي دكتاتوري ديني مطلق لا يسمح فيه لأحد بالاحتجاج ولا حتى بهمس السؤال. والغريب أن لا أحد من الإخوان المسلمين، ولا من مناوئيهم من السلف، على استعداد للاعتراف بوجود تناقض بين الديموقراطية التي يدعون إليها جهرا، ومفهومها وفلسفتها اللذين يتعارضان مع فكرهم! فهذه الجماعات تصرّ على وجود «مرجعية دينية» ذات سلطات واسعة، كما هي الحال في إيران مثلا، علما أن الديموقراطية لا تقبل بوجود أي نوع من المرجعية، فوجودها مناقض لروح الدولة العصرية. ويُذكر أن كلمة دولة لم يرد ذكرها في أي من كتب التراث، وبالتالي ليس غريبا أن الفكر الإسلامي لم يتطرق إلى نظام الحكم الأمثل المطلوب اتباعه، وما وجدناه في التاريخ الإسلامي لم يكن غير أنظمة حكم تتالت على المسلمين منذ اليوم الأول، وحتى انهيار دولة الخلافة العثمانية، كان السيف فيها هو الفيصل والحكم لمن غلب! وعيب مثل هذا النوع من أنظمة الحكم أنها غالباً تنتهي بموت «القائد المرشد» أو فناء سلالته، فلا انتخابات ولا تبادل سلطة ولا رقابة لأعمال الحاكم، ولا شفافية ولا حساب ولا عقاب، ولا آلية تشريع غير كلمة الحاكم أو المرشد الأعلى. ومعروف أن أيا من الخلفاء الراشدين لم يضع نظاما موحّدا لاختيار من يأتي بعده، فقد كانت لكل منهم طريقته في الحكم وظروف عصره، فقد حصر الخليفة عمر الخلافة في قريش، بعد رفع السيف في السقيفة، لتبقى بينهم لأكثر من ستمائة عام. واختار الخليفة أبو بكر أن يعين، كتابة: عمر خليفة من بعده! وقام عمر، وهو يصارع الموت، بتعيين لجنة من ستة من الصحابة ليختاروا من بينهم من يكون خليفته، فاختاروا عثمان، ولكن هذا قُتل قبل أن يختار من يخلفه، فاختارت فئة علي خليفة، فنازعه معاوية في الخلافة، فارتفعت سيوف الطرفين في صفين، وتفرّق المبشرون بالجنة، هذا في طرف وذلك في الطرف الآخر، لتبدأ نار الفتنة الكبرى، التي لا تزال متقدة إلى اليوم، وليبدأ بعدها الحكم الوراثي في الأسر الحاكمة من أموية وعباسية وفاطمية وعثمانية وغيرها!
والسؤال هنا للسادة تجّار الدين في زماننا: أي نظام إسلامي قديم سيتبعونه إن استولوا على السلطة: طريقة أبي بكر أم طريقة عمر أم طريقة عثمان أم طريقة علي، أم من جاء بعدهم من أمويين وعباسيين وغيرهم؟ وحيث إنه لا أحد بإمكانه القول بأفضلية طريقة على أخرى، فإننا نجد أن الحل هو في الديموقراطية الغربية، التي لا يمكن أن تطبَّق بطريقة سليمة بغير علمانية، تتيح للجميع الدرجة نفسها من المساواة أمام القانون، وأي كلام خلاف ذلك يعني استمرار الاقتتال والتخلّف والتشرّد.