هذه كلمة مأثورة ولو لم تخني ذاكرتي فقائلها هو الإمام الشافعي عندما عاش محنة اتهامه من طرف هارون الرشيد بأنه يتآمر عليه مع تسعة من العلويين فأتى به أمير المؤمنين ووقع بين الرجلين جدال فقهي وفكري ونجا الإمام من القتل بعد أن قطع الرشيد رؤوس العلويين التسعة ولكن الشافعي قال تلك القولة كما يبدو لبعض سجانيه حين كانوا يقودونه مغلولا فاعتذر لديه أحدهم قائلا أنه عبد مأمور فكان جواب الإمام: “نعم عبد مأمور ولكن لولا أمثالك ما ظلم الطغاة”. وقياس هذه الحكمة في زمننا الراهن هو الاعتبار بها لأننا نحن العرب نعيش عهدا لا عهد لنا به بعد التغييرات العميقة التي دخلت على أنظمة الحكم فانهارت دول وقامت دول على أنقاضها ولكننا لم نهتد إلى سبل الرشاد وحين دقت ساعة محاسبة الظالمين برر بعض الموظفين الذين كانوا ينفذون أوامر الطغاة وتعليماتهم بنفس عبارات سجان الإمام الشافعي أي أنهم عباد مأمورون ونحن الذين كنا مظلومين ومشردين في أرض الله الواسعة أو الذين كانوا أسوأ منا حظا يقبعون في السجون عشرات السنين أو أولئك الذين اختارهم الله سبحانه للشهادة فماتوا تحت التعذيب فنقول لهؤلاء الموظفين المأمورين نفس ما قاله الإمام الشافعي: “لولا أمثالكم لما ظلموا”.
صحيح أن الطغاة لا يخشون الله وينتهكون حرمات الإنسان ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولكن الأعوان الذين ينفذون أوامرهم يصنفون من جنود فرعون كما جاء في كتاب الله العزيز فهم لا يقلون عنهم مسؤولية ولا حجة لهم حين تنزل أيديهم بالسياط على جلود ضحاياهم أو حين تمتد أيديهم إلى بيوت الضحايا يصادرونها ويبيعونها وهم يعرفون بأنهم يأتون ظلما وجورا فالله سبحانه لا يعفيهم من جريرة الظلم وتطبيقه وتنفيذه على مظلوم بل كان من بين رجال العهد السابق وزراء وموظفون سامون لم يشاركوا في المظالم مباشرة ولكنهم سكتوا عنها ولم يستقيلوا ولم ينبسوا ببنت شفة في حضره السلطان الجائر فساعدوا الظالمين على المزيد من الظلم بصمتهم وامتناعهم عن قول الحق وازداد الطغاة طغيانا وتحق فيهم عبارة الإمام الشافعي بأن لولا أمثالهم لما ظلموا.
هذه المعاني خطرت بوجداني حين حضرت الأسبوع الماضي موكب قبول التعازي في قرية سيدي بوسعيد بتونس بعد وفاة صديقي الوزير السابق المازري شقير رحمة الله عليه فقابلت هناك جمعا من الوزراء السابقين ومن رؤساء الحكومات السابقين أيضا ومن كبار الموظفين وظللت أطوف بالتحية والسلام على جميعهم وبادلوني نفس التحية والسلام ولكني لم أقدر على إخفاء ذكريات مريرة مرت على خاطري وطافت بخيالي وهي تعود وتهجم علي في تلك اللحظات فتذكرت أن نفس هذا الرجل الذي يصافحني بل ويعانقني بشوق أخوي اليوم في مطلع أكتوبر 2013 هو ذاته الذي كان سنة 1988 رئيسا للحكومة في نظام السابع من نوفمبر وكنت أنا وصديقي محمد مزالي والرجل الذي توفي أخير المازري شقيرمشردين أو ملاحقين من إنتربول ومطلوبين لعدالة غير مستقلة وقضاة مأجورين (وهم قلة بين رجال القضاء الشرفاء) وحين كان هذا الرجل رئيسا لحكومة بن علي لم يحتج ولم ينصح الرئيس بأننا كنا مضطهدين من دون وجه حق وكنا مشردين في المنافي من دون سبب وجيه أو ذنب ارتكبناه. وها نحن اليوم نلتقي وجها لوجه ونحن نقدم العزاء ونترحم على أحد الضحايا السابقين في لحظة يتيحها الله لنا لكي نعتبر ونقف صفا واحدا في وطن قام بثورة ضد الظلم وضد الظالمين لكن الشعب التونسي المتسامح والوديع لم يفكر في إنتقام ولم ينجذب إلى تشفي ولم يحاسب إلا من توغل في الظلم وأساء للوطن ونهب أموال الناس أما الآخرون الذين اعتبروا أنهم مأمورون وأن لا حول ولا قوة لهم أمام طغيان طاغ فيعيشون برواتب تقاعد (بينما نحن الضحايا فلا منحة تقاعد لنا إلى اليوم ورفضنا الانخراط في ماسمي عفوا تشريعيا يتيح لنا الإنصاف والتعويض) ويشارك هؤلاء الموظفون السامون السابقون في مواكب عزاء ضحاياهم السابقين ويمشون في جنائزهم وينسون أنهم حين كانوا على رأس السلطة أصيبوا بفتنة الحكم ودوار الكرسي فشاركوا في ظلمنا ولو بالسكوت عن الحق كالشياطين الخرس.
أما العبرة التي على الأجيال القادمة أن تعتبر بها فهي ضرورة القطع تماما مع الظلم وانتهاج سبل الخير واحترام الذات البشرية وحقوق الإنسان مهما كان لأنه إما أخ لك في الدين أو شقيق لك في الوطن أو توأم لك في البشرية فلا تمد عليه يدك ظالما أبدا لأن الله سبحانه يمهل ولا يهمل وأنه حتى لو سامحك المظلوم لن يغفر لك رب العزة ولو بعد حين فيمد لك في طغيانك حتى تسقط من علو شاهق فلا يرحمك من لم ترحمه ويزين لك الشيطان أعمالك فتطغى وتنسى الله فينسيك نفسك ويأتي يوم تلاقي فيه ضحاياك إما في الدنيا فتخجل وترتد إلى ضعفك وتطلب الصفح ممن اعتديت عليه ذات يوم وإما في الآخرة بين يدي الله حين لا ينفع مال ولا بنون وليس للإنسان إلا ما سعى. هذه هي العبرة مما يسمى الربيع العربي وهو ربيع بدأ ينذر بالخريف لأننا لم نتبين طريق النجاة ولأن النخبة السياسية فضلت أحزابها وأنسابها وأحسابها على مصالح الوطن رغم المتربصين بنا من كل جانب ورغم العواصف التي تهدد كياننا والمخاطر المحدقة بنا. ففي مصر لم تستقر الحال بعد وسقطت يوم الأحد الماضي خمسون ضحية في مواجهات بين العسكر والإخوان في حين أن الأمر العاجل يستدعي الحوار دون أحقاد لكي تستعيد مصر العريقة المجيدة عافيتها وتعود لسالف منزلتها وسابق إشعاعها وفي تونس لم نهتد بعد إلى فضيلة الحوار الوطني حتى زلت لسان أحد الخطباء في حفل بداية الحوار فعوض كلمة الحوار بكلمة الحمار (لعله الذي يحمل أسفارا!) وفي ليبيا تم قتل جنود وضباط في معارك قبلية أما عن سوريا فلا تسأل لأن الأمر خرج عن قدرة العرب ليكون محور صفقات بين العملاقين الأمريكي والروسي. اللهم رحمتك على العرب وعفوك وهداك وحسن رضاك.