هو انتصار تاريخي للأمة العربية في السادس من أكتوبر من العام 1973. فقد استيقظت جماهيرها من المحيط إلى الخليج على هدير الطائرات المصرية والسورية تدك مواقع الأعداء في كل من سيناء والجولان المحتلتين ودوي المدافع تفجر التحصينات على خطوط المواجهة. كان الأمر أشبه بفجر يطل على بعد غسق طال أمده احتلت في ظلاله السوداء الأرض واغتصبت الحقوق وأجهضت الأشواق الكبرى.
فاجأنا أداء الجيوش العربية وأقول العربية لأن دولا أخرى غير مصر وسوريا بعثت بقواتها للجبهات لتشارك في الهجوم على قوات العدو الغاشم الذي ظل لسنوات منذ تأسيسه على الباطل يزعم أن جيشه لا يقهر وغير قابل للهزيمة وأنه سيد المنطقة الاستراتيجي خاصة في ظل تحالف أبدى مع أكبر قوة في العالم وهي الولايات المتحدة.
لقد تحقق نصر أكتوبر بعد أن تم تغيير الأساليب والآليات التي يعتمد عليها في بناء الجيوش العربية بالذات في مصر وسوريا وبشكل أخص في مصر والتي قاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عملية تغيير شاملة في هيكلية القوات المسلحة وتعظيم مهاراتها القتالية مما مهد بعد ست سنوات من الهزيمة المؤلمة في الخامس من يونيو 1967 من وضعها على سكة امتلاك القدرة على شن الحرب وهو ما تحمل مسؤوليته الرئيس الراحل أنور السادات.
ولم تقتصر عملية إعادة بناء القوات المسلحة المصرية على التدريبات النظرية والعملية وإنما أتاحت لها القيادة السياسية والعسكرية مجال خوض معارك ومواجهات حقيقية مع قوات العدو الأمر الذي تجلى في حرب الاستنزاف التي تشكل في حد ذاتها ملحمة للبطولات والتضحية من أجل الوطن وترابه ومشروعه للنهوض وللأجيال القادمة
كان التخطيط العملي والتدريب الشاق وحشد كل جهود الوطن هو السبيل الوحيد لإنجاز مهمة إعادة بناء جيش قادر على إلحاق الهزيمة بالعدو المسكون بالغرور وغطرسة القوة فضلا عن ذلك اعتمدت القيادة السياسية على عناصر عسكرية تتسم بالكفاءة العالية والمهنية الرفيعة المستوى لتولي كل ما يتعلق بشؤون القوات المسلحة وبدا أن هناك حالة من الانضباط الشديد بين أفرادها فرضها بقوة وبعدل الفريق أول محمد فوزي الذي تولى قيادتها بعد التخلص من القيادة السابقة التي كان أداؤها الهش والمحدود الفعالية واحدا من أسباب الهزيمة.
كان ذلك على المستوى الوطني أما على المستوى القومي فقد انتفضت الأمة لتقديم الإسناد المطلوب لكل من الجيشين المصري والسوري في معركة رد الاعتبار فأعلنت دول مجلس التعاون الخليجي استخدامها لسلاح النفط لأول مرة في تاريخ العلاقات مع الغرب المهيمن على المنطقة والتي ينظر إليها بحسبانها مجالا حيويا له وشاركت جميعها بدرجة أو أخرى في منع إمدادات البترول إلى الولايات المتحدة ودول أوروبا مما شكل ورقة ضغط شديدة الأهمية في الصراع مع العدو الإسرائيلي ومن وراءه.
كما سارعت هذه الدول بتقديم مساعدات مالية إضافة إلى ما قدم لدول المواجهة الثلاث: مصر وسوريا والأردن من استحقاقات مالية تنفيذا لقرارات قمة الخرطوم الشهيرة والمفصلية التي عقدت عقب الهزيمة مباشرة في أغسطس1967بالإضافة إلى إرسال بعضها كتائب من جيوشها للمشاركة في القتال الدائر مع العدو مثلما فعلت الكويت ولا يمكن نسيان الإسناد العراقي والجزائري والسوداني لوجستيا وعسكريا على جبهات القتال المشتعلة مع الكيان الصهيوني والتي كان لها نصيبها من الشهداء.
ولكن بعد سنوات من هذا الانتصار الاستثنائي في التاريخ العربي المعاصر فوجئنا وطنيا بالتخلي عن التخطيط العلمي والصحيح في مجالات الحياة المختلفة وتم التخلي طوعا عن التفكير في المستقبل وبات الحاضر يحاصرنا بكل تحدياته ومعضلاته بل قام السادات والذي رغم تقديري لدوره في اتخاذ قرار الحرب والصمود بفتح الباب أمام إجهاض النتائج العسكرية للحرب وعدم القدرة أو الرغبة في توظيفها سياسيا ورأيناه وفق شهادات قدمها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ومهندس إهدار انتصارات أكتوبر على الجبهة المصرية يقدم العديد من التنازلات التي كادت تجرد هذه الانتصارات من مضمونها وهو ما قاد فيما بعد إلى اتفاقية السلام مع العدو التي وقع عليها في العام 1979 وأسفرت عن حالة سيولة في سيناء دفعت مصر ثمنها ومازالت.
أما قوميا فغابت الروح التي سادت خلال حرب أكتوبر وبدت كل دولة عربية مشغولة بداخلها وأعطيت الأولوية للدولة القطرية على حساب الدور القومي وهو ما تجسد في شعار: مصر أولا والأردن أولا وهكذا في غير بلد عربي وبات الانتماء القومي أشبه بالجريمة خاصة مع صعود الإسلام السياسي الذي لم يعمل على إخفاء عداوته للبعد القومي رغم أن ذلك لا ينتقص من إيمان المسلم. ولم تستفد لا النظم العربية الحاكمة ولا النخب المنتمية للإسلام السياسي من مقاربات مهمة حققها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت باتجاه بلورة تقارب بين التيارين من خلال المؤتمر القومي الإسلامي والذي شاركت في أكثر من دورة له سواء بالدوحة أو في فاس وكانت تتسم بالجدية في حشد رموز نوعية من الطرفين لدفعهما لتجاوز جراحات الماضي والتفكير في مستقبل الأمة ولكن بعد نشوء الثورات بدول الربيع العربي تبددت هذه المقاربات النظرية. وسعت قوى وأحزاب الإسلام السياسي إلى الهيمنة على السلطة متعاملة مع المكونات الأخرى على نحو يعلي من سيطرتها على مفردات العملية السياسية ومفاصل الدولة وإقصاء الآخر وهو ما لم يقبل به الشعب المصري – على سبيل المثال – والذي أعلن رفضه لمشروع تمكين جماعة” الإخوان المسلمين” وثار عليها في الثلاثين من يونيو الفائت فأسقط نظامها ورئيسها وكان من الممكن – لو رشدت الجماعة سلوكها السياسي – أن تنجح في التمكين عبر وسائل أكثر ديمقراطية وأكثر قدرة مع التجاوب مع أشواق الناس.
السطر الأخير:
اعبري حواجزي
لا تقيمي مناطق عازلة
هشمي ما بيننا من جدارات
خذيني إليك عاشقا
خبئيني في شهدك
أيا صبية المدينة وسيدة المدرات