تحل هذه الأيام الذكرى السنوية الأربعون لحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، والتي كانت آخر الحروب الكبرى بين العرب وإسرائيل، وفاتحة عهد من اللاتوازن في الصراع المديد. وفيما يواصل المصريون، لاسيما في هذا العام، إبراز مظاهر الحفاوة البالغة بهذه الواقعة التي أطلقوا عليها بحق اسم “معركة العبور”، يُطبق الصمت والتجاهل التام من جانب السوريين، لاسيما الآن، على ذكرى هذه المعركة التي سموها “معركة تشرين” التحريرية.يمكن لنا فهم أسباب مبالغة الشريك الأول في الحفاوة بهذه الحرب، ونعني به مصر، وإدراك مغزى سعيه الى استعادة أبوة أمجاد تلك اللحظة التاريخية واعتمادها رافعة من روافع تعزيز شرعية الموجة الثورية الثانية. غير أنه لا يمكن لنا، في المقابل، فهم دواعي مرور الشريك الثاني، وهو سورية، مرور الكرام على حرب نسخت حرب داخلية، مستمرة بضراوة، كل ما في الذاكرة السورية.إلا أن الأمر الأكثر جدارة بالملاحظة، هو أن المصريين يبثون اليوم سلسلة من المقابلات المسجلة بالصوت والصورة مع قادة وأركان تلك الحرب، كانت محفوظة في أرشيف القوات المصرية منذ نحو خمسة عشر عاماً، لم يسمح نظام حسني مبارك أو محمد مرسي بإذاعتها طوال تلك المدة. وهي مادة ثمينة، تشكل إضافة نوعية إلى كل ما كتبته أقلام مصرية مرموقة، ودونته ذكريات شخصية، عن وقائع هذه الحرب المجيدة.في المقابل، لم يكتب السوريون سطراً واحداً في دفتر هذه الحرب، ولم يذيعوا أياً من تفاصيلها؛ لا من قبل المراجع العسكرية الرسمية، ولا من جانب قادة شاركوا في المعارك. بل حتى أن وزير الدفاع السوري آنذاك انشغل في تأليف كتب عن الطهي وعن الأزهار والفن، وكرس نفسه في تمجيد مناقبية رئيسه، وبدا كأن هذه الحرب تثير ذكريات أليمة لا يود أحد في دمشق استعادتها لمرة واحدة.على الجانب الآخر، أمعن الإسرائيليون في توثيق وقائع أقسى حرب تعرضوا لها. وشكلوا لجنة تحقيق قضائية لمراجعة عوامل الإخفاق، وتحديد المسؤوليات، وأخذ الدروس والعبر الثمينة منها. وأذكر أنه بعد عام واحد من تلك الحرب، قرأت كتاباً قيماً عن مجرياتها تحت عنوان “التقصير” (هامحدال)، اشترك في كتابته أربعة ضباط احتياط، سجلوا فيه ببلاغة أدبية لافتة حقائق مذهلة من يومياتهم في معارك الهضبة المحتلة.وإذا كان من المفهوم على نطاق واسع دوافع اهتمام المصريين والإسرائيليين بحقائق وتداعيات هذه الحرب التي أبلوا فيها البلاء كله، فإن السؤال المنطقي هو: لماذا يواصل النظام السوري، من عهد الأب إلى زمن الابن، التعتيم على هذه الواقعة العسكرية الكبيرة؟ هل لأن الفشل في تحقيق نتائج ملموسة هو السبب، أم أن اللغز يقع في مكان آخر؟ وهل يصادق هذا الصمت المطبق حول الحرب على صحة ما يتبادله السوريون من كلام رائج عن مؤامرة تسليم الجولان في حرب حزيران (يونيو) 1967؟ويزيد من حراجة السؤال المتعلق بتجاهل النظام السوري لذكرى هذه الحرب، أن حماة الديار ليست لديهم مفاخر في المواجهات مع إسرائيل؛ إذ لم يشاركوا في حرب 1948، فيما شارك مئات المتطوعين السوريين فيها ببسالة. كما أن دمشق لم تشارك في حرب 1956، ولم تخض معركة حقيقية في الجولان خلال حرب الأيام الستة، فكانت “حرب تشرين” هي الاستثناء على القاعدة التي تمسكت بها دمشق، وعملت بموجب أحكامها المبهمة إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 1982، وفي كل المواجهات اللاحقة، بما في ذلك الاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية.أحسب أن هذا السؤال المحير عن أسباب تجاهل النظام الغارق في دماء شعبه اليوم، لكل ما في سجله العسكري من وقائع ملتبسة، بما في ذلك “حرب تشرين” ذاتها، سوف يظل سؤالاً معلقاً في سماء هذه المرحلة المديدة، وذلك إلى أن تنجلي الحالة السورية الراهنة عن حقائق مخبوءة، وتتلاشى رغوة الكلام في الخطب المنمقة، لتتكشف فيما بعد أرشيفات نصف قرن من الخداع والمراوغات والأكاذيب التي زيّفت الوعي العام في هذه المنطقة.issa.alshuibi@alghad.jo
عيسى الشعيبي/ذكرى حرب أكتوبر بين الحفاوة والتجاهل
23
المقالة السابقة