يولي الكيان الصهيوني أهمية كبرى لمدينة القدس, فبعيْد احتلال الجزء الشرقي منها في 5 يونيو 1967 وفي نفس اليوم أقام الجنود الإسرائيليون حلقات الدبكة،وجاء المتطرفون للصلاة عند حائط البراق. كيف لا؟ وهم في صلواتهم ينشدون شعار”شُلّت يميني إن نسيتك يا أورشليم”. مباشرة تم حل مجلسها البلدي وكافة هيئاتها, وقالت إسرائيل جملتها المشهورة:”بأن القدس ستبقى العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل”. في 17 يونيو من نفس العام أعلن الكيان الصهيوني”بدء تطبيق القانون الإسرائيلي على المدينة المقدسة ,وفي 31 يوليو جاء قرار الكنيست بضم القدس إلى إسرائيل لتكون”عاصمته إلى الأبد”.للعلم جرى احتلال الجزء الأكبر من القدس في عام 1948.منذ تلك اللحظة بدأت اسرائيل بتطوير عمليات تهويدها.إن ميزانية الأستيطان الإسرائيلية بما في ذلك تهويد القدس تبلغ 1.7 مليار دولار سنوياً(تصوروا!)هذا بالإضافة إلى المبالغ الآتية من المنظمات الصهيونية في جميع أنحاء العالم(وبخاصة من الولايات المتحدة)على شكل مساعدات(هبات),ومن المنظمات الحليفة من الصهيو-مسيحية!.
عملياً بدأ تهويد القدس مع دخول القوات البريطانية إلى فلسطين في عام 1917. إذ قام المندوب السامي بتعيين مهندس بريطاني اسمه ماكلين , وكلفه بوضع هيكل مخطط تنظيمي للقدس, وخلال الفترة من 1922-1925 أقيم 11 حي استيطاني فيما اصطلح على تسميته فيما بعد”القدس الغربية”. هذه أُقيمت على أملاك عربية تمت مصادرتها من قبل سلطات الانتداب, وتقديمها للمنظمات الصهيونية مثل أحياء: “روميما” و”تلبيون” و”سان هادريا”. كانت مساحة مدينة القدس سنة 1931 4800 دونم،وفي عام 1948 وقبيل إنشاء إسرائيل بلغت 20131 دونم. أما الآن فإن مساحة القدس الكبرى تبلغ 600 ألف دونم. التوسيع الإسرائيلي في مدينة القدس الشرقية هي في الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية(وليس الغربية) أي في الاتجاهات الشاملة للأراضي العربية الفلسطينية.بالمعنى الفعلي فإن المدينة المقدسة تعيش المرحلة الأخيرة من التهويد, وفعلياً بعد عشر سنوات لن يتبقى منها أية ملامح عربية. مؤخراً صدر قرار إسرائيلي بالاستيلاء على أسطح المحلات التجارية, وقرارات أخرى بتطبيق المنهج الإسرائيلي في المدارس العربية, وانتزاع الهويات من المقدسيين وإعطاؤهم بطاقات إقامة لمدة عشر سنوات( بهدف مسح المواطنة وتحويلهم إلى مقيمين). الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي سوف يتقدم إلى الكنيست الإسرائيلي بمشروع قرار( خلال شهر من تاريخه)ينص على:
أولاً: تحويل المسجد الأقصى إلى مقدس يهودي.
ثانياً:إلحاق المسجد الأقصى بوزارة الأديان الإسرائيلية.
ثالثاً: فتح جميع أبواب المسجد الأقصى أمام اليهود والمستوطنيين والمتطرفين.
رابعاً: تحويل 70% من ساحات المسجد الأقصى إلى ساحات عامة. اليهود كانوا يملكون في البلدة القديمة للقدس في عام 1948 , 5 دونمات فقط،أما الآن فهم يمتلكون 200 دونم. لقد هُدمت أحياء في البلدة القديمة:حي المغاربة هدم وتحول ساحة للمبكى، كما جرى هدم حارة الشرف( وتحولت إلى حي استيطاني) إضافة إلى مصادرة عقارات كثيرة داخل البلدة. لقد بدأت إسرائيل بانتزاع حجارة من أسوار القدس القديمة واستبدالها بحجارة نقشوا عليها رموز دينية يهودية لإثبات الحق التاريخي لليهود في فلسطين. الاقتحامات الإسرائيلية الحالية التي تتم للأقصى هي عملياً اختبارات لردود الفعل العربية والإسلامية , وإذا بقيت ردود الفعل باردة كما هي عليه الآن فسيجري إقامة ما يسمونه” بالهيكل الثالث” بعد هدم المسجد الأقصى(بفعل الأنفاق التي حفروها تحته).الإسرائيليون يعملون وفقاً لحقيقة”من يمتلك القدس بالضرورة يمتلك كل فلسطين”.انطلاقاً من هذه الحقيقة فإن صلاح الدين الأيوبي وبعد انتصاره في معركة حطين في 4 يوليو 1187م، انتقل مباشرة إلى تحرير القدس وكان ذلك في 2 أكتوبر عام 1187م ولم يذهب قبلها الى تحرير أية بقعة أخرى.
مثلما قلنا سابقاً: فإلى جانب الميزانية الكبيرة التي خصصتها إسرائيل لتهويد المدينة المقدسة والاستيطان, هناك الدعم الصهيوني الذي يقدر بمئات الملايين من الدولارات سنوياً, فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الملياردير الأميركي اليهودي الصهيوني ايرفنج موسكوفيتش يمول لوحده أحياء استيطانية بكاملها, إضافة إلى الاستيلاء على عقارات جديدة للمقدسيين بطرق التفافية خداعية.مؤخراً قام بتمويل الاستيلاء على 70 عقاراً في البلدة القديمة من القدس و 40 عقاراً في سلوان وغيرها.في إسرائيل جمعيات استيطانية كثيرة تعمل على تمويل المتسوطنات وتتلقى الدعم الخارجي, وأشهرها”عطيرات كهانيم”و”شوفوبنيم” و”ألعاد” وغيرها.المشروع الأهم الذي مولهُ موسكوفيتش قبل عدة أعوام هو: بناء حي استيطاني في رأس العمود أطلق عليه اسم”معالييه هزيتيم”وهو لا يبعد سوى 150 متراً هوائياً عن المسجد الأقصى, ويشتمل على 132 وحدة استيطانية, إضافة إلى إعلانه تمويل بناء حي استيطاني في ذات المكان سوف يحمل اسم”معاليه ديفيد”ويشتمل على بناء 104 وحدات استيطانية سترتبط بمعالييه هزيتيم بجسر،ما سيرفع عدد المستوطنيين في القدس 200 عائلة إضافية(منيب أبو سعادة: منظمات أميركية تمول الاستيطان مركز القدس 2009،9،12) في عام 1996 فإن موسكوفيتش والمليونير اليهودي رينيرت شاركا سوية في تمويل وشق نفق البراق أسفل المسجد الأقصى في عام 1996(تصوروا المهمات السنوية للمليونيرات اليهود!). يرى غرشون غورينبرغ مؤلف كتاب”الإمبراطورية العرضية إسرائيل وولادة المستوطنات:” أن المالكين أمثال موسكوفيتش يريدون منع أية تسوية قد تؤدي إلى سلام في المنطقة ” فيما وصف موسكوفيتش أية تسوية بأنها: تدهور نحو التنازلات والاستسلام و انتحار إسرائيل”..الأموال التي تصل إسرائيل على شكل تبرعات للاستيطان تبلغ سنوياً من 700 -800 مليون دولار سنوياً. من هذه المنظمات: الصندوق الوطني اليهودي،الوكالة اليهودية في أميركا، المنظمة الصهيونية العالمية، النداء اليهودي المتحد، النداء الإسرائيلي المتحد،أميركيون من أجل إسرائيل آمنة، جمعية أصدقاء إسرائيل واحدة،وغيرها وغيرها. يزيد عدد المنظمات الصهيونية والصهيو مسيحية التي تقوم بتمويل المستوطنات ما يزيد على 1000 منظمة وجمعية. الأموال التي يجري تقديمها للاستيطان الإسرائيلي معفاة من الضرائب في أميركا( نفس المصدر السابق). هذا غيض من فيض من التمويل الصهيوني ـ الغربي للاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس. نعم ضاع الجزء الأكبر من فلسطين في عام 1948 والعرب والمسلمون يتفرجون, وكذلك جرى احتلال الجزء المتبقي من فلسطين في عام 1967 وها هي القدس تضيع, ونحن نتفرج!.
الجانب الثاني من الصورة يتمثل في التقصير الفلسطيني والعربي والإسلامي والمسيحي إلى حد ما تجاه تهويد القدس , والمحافظة على عروبتها،للأسف هذا ما يحصل وحول ذلك نقول:لقد حظرت اتفاقيات أوسلو المشؤومة على السلطة الفلسطينية, تقديم أي شكل من أشكال الدعم للمدينة المقدسة ولأي من هيئاتها. إن مستشفى المقاصد الإسلامية(على سبيل المثال لا الحصر)في القدس الشرقية يطالب السلطة الفلسطينية بمبلغ 15مليون دولار تكاليف من تحولهم السلطة للعلاج فيه, وحتى اللحظة لم تدفع السلطة له أي مبلغ ,مما اوقع المستشفى في عجز مالي كبير( وعلى ذلك قِسْ!). التقصير العربي يتمثل في عدم الوفاء من قبل الدول العربية بالمبالغ التي تقررها لدعم القدس، ففي عام 2010 تقرر دعم القدس بمبلغ 500 مليون دولار سنوياً, وفي عام 2013 تقرر إنشاء صندوق لدعم المدينة بمبلغ مليار ونصف المليار دولار سنوياً،مجموع ما تم تقديمه من مبالغ 35 مليون دولار(أي ما نسبته 2.3% من المبلغ المقرر!). على الصعيد الإسلامي: في أعقاب حريق المسجد الأقصى عام 1967, قررت قمة المؤتمر الإسلامي التي عقدت في المغرب إنشاء صندوق إسلامي لدعم القدس.الغريب أنه لم يعقد أي اجتماع لهذا الصندوق منذ أكثرمن خمسة عشرة عاماً،وبالتالي لم يقدم الصندوق أي دعم مالي للقدس.تكتفي السلطة الفلسطينية والدول العربية والإسلامية بإصدار بيانات الشجب والاستنكار لما تقوم به إسرائيل في القدس, وكفى الله المؤمنين شر القتال! على المستوى الشعبي العربي هناك أيضاً تقصير واضح, باستثناء الندوات والمؤتمرات وغيرها. هناك جمعيات داعمة للقدس في الدول العربية ولكن ما تفعله قليل بالنسبة للاحتياجات, إذ يظل الدعم المالي محدوداً من هذه الجمعيات: مؤسسة القدس القديمة يصل دعمها إلى 10 مليون دولار في السنة. مؤسسة التعاون تركز على بعض أعمال الترميم في البلدة القديمة. بيت مال القدس .عشرة جمعيات أو أكثر في الأردن معظمهات لا يقدم الدعم المالي باستثناء جمعية حماية القدس الشريف وقد قامت بترميم عدد من البيوت في المدينة، جمعية لجنة يوم القدس( تقدم 25 ألف دينار سنويا). اللجنة الشعبية الأردنية لنصرة القدس وحق العودة ( برئاسة الصديق الأستاذ عدنان الحسيني وهو الموسوعة المتنقلة حول القدس, وكانت معظم المعلومات التي وردت في المقالة بالتنسيق معه) اللجنة تم إنشاؤها منذ عام ونصف.
تصوروا أن معتقلين فلسطينيين في السجون الإسرائيلية لا يمتلك ذووهم أجرة المحامين للدفاع عن أبنائهم. إن دعم المدينة والحفاظ على عروبتها يتم من خلال إقامة مشاريع إسكانية فيها، دعم المؤسسات الوطنية فيها, ترميم البيوت الأيلة للسقوط، إقامة مشاريع حرفية لخلق فرص عمل، الدعم المالي لصغار التجار، تحمل أعباء محاميي المعتقلين, إنشاء مركز لمكافحة آفة المخدرات التي تعمل إسرائيل دوماً على نشرها، الدعم المالي للمدارس الخاصة, إحياء دور التكايا والزوايا لمساعدتها في إطعام الفقراء. حسب تقديرات الخبراء وذوي الاختصاص فإن المدينة بحاجة سنوياً لمبلغ 500 مليون دولار سنويا ولمدة عشر سنوات.
هذه الصورة من جانبيها قدمناها ونسوقها دون تعليق! لو أن كل عربي دفع عشرة قروش سنويا للقدس فسيكفي هذا المبلغ لاحتياجاتها السنوية، أما إذا شارك مواطنوا الدول الإسلامية فسيكفي هذا المبلغ لعشر سنوات. الفلسطينيون والعرب والمسلمون دائمو التغني بالقدس ولكن نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً.
د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني