ليس هناك من أغنية تعبر عن الانقسام في الحالة الشعبية العربية اجتماعيا ونفسيا مثل أغنية المطرب المصري علي الحجار التي كتبها مدحت العدل وقال فيها ” إحنا شعب وانتو شعب”.. رغم أن الرب واحد لينا رب وليكو رب.. واللي هز القلب منا عمره ما هزلكوا قلب”، ولا أدري كيف وفق الحجار بين الاعتراف برب واحد وبعدها يعتبر ربه غير رب الآخر، وبهذا المعنى يكون هناك “ربان” لا رب واحد، فلكل ربه، وانتقل في الأمر إلى معنى آخر ألا وهو الانفصال الشعوري بين الشعبين، رغم أنهما يسكنان نفس الأرض، فالمشاعر التي تهز قلبه لا تهز قلوب الآخرين، وربما كانت هذه العبارة تحمل معنى عدم وجود قلوب عند هؤلاء الآخرين.
ربما تكون هذه الأغنية أفضل ترجمة عملية لما جاء في ورقة المفكر العربي الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة بعنوان: “نحن” و “هم” ومأزق الثقافة الديمقراطية في عصر الثورة” والتي ألقاها في افتتاح المؤتمر السنوي الثاني للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت شعار “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي.. مسائل المواطنة والدولة والأمة” والذي عقد على مدى يومين في الدوحة.
توصيف بشارة للحالة جاء شاملا وعميقا ومختصرا فقد اعتبر “أن انقسام المجتمعات العربية بين علمانيين ومتدينين أو قوى سياسية علمانية وقوى سياسية دينية لا يقود إلى تعددية سياسية بل إلى شرخ مجتمعي يمنع التعددية والانقسام العمودي المجتمعي الذي يمنع التعددية السياسية هو الانقسام إلى هويات أو ما أسميته “نحن” و “وهم”.
ويغوص في تفسير هذا التشظي قائلا: “نحن” في مقابل “هم” تعني إطارا مرجعيا يقبل التعددية في داخله فقط ويعتبر الآخر غير شرعي إلا في إطار هم خارج ال نحن”، هذا في حالة وجود تسامح، وقد يكون الآخر عدوا متجسدا في كيان سياسي هو دولة العدو، أو يكتسب شرعيته ككيان خارج الدولة أو في مجالها المحدد داخلها إذا نشأت الدولة في أطر توافقية، أما إذا تولدت “هم” في إطار التنافس السياسي داخل كيان سياسي مشترك فإن الصراع والاستقطاب يحكمان العلاقة بين “نحن” و “هم”.
وفي هذه الحالة تستورد جدلية العدو والصديق إلى داخل الكيان السياسي، ومن هنا، وفي إطار مسعى “نحن” لإنتاج الآخر كـ “هم” يجري ربط الآخر بقوى ودول خارجية ومؤامرات لأن تسهيل تخيل تهديد حقيقي من عدو حقيقي يتطلب أن يصاغ كدول وككيانات سياسية أخرى ولابد من ربط الخصم السياسي بها لتحويله إلى هم فعلا.
أما فيما يتعلق بحالة العداء فإن التواصل بين “نحن و”هم” يعني “التحريض ونشر الشائعات والآراء المسبقة والتنمطيات العصابية بدلا من النقاش والحوار، ولأن المعايير الأخلاقية تصم داخل “نحن” ولا تصح بالنسبة إلى الآخر، فإن الكذب صبح مبررا، وكذلك تبادل القبل وضمر الشر في الوقت ذاته وخلافا لما يروج في الثقافة الإعلامية فإن ازدواجية المعايير هنا لا تعد رذيلة بل سياسة بالمعنى السلبي لكلمة سياسة”.
ليس ثمن أدق من هذا الوصف للحالة الانشطارية العربية حاليا والتي يمكن أن تعتبر مصر نموذجها ومختبرها الأهم في اللحظة الراهنة، ويكفي مراقبة وسائل الإعلام التي تحولت إلى أدوات قتل واغتيال وتحريض وتشويه وما يعاضدها من فتاوى تصف “الآخر” بأنه من الخوارج الأمر الذي يمكن ترجمته على أنه رخصة للقتل، وهو ما حدث فعلا.
ويتهم بشارة النخب العربية بلعب دور سلبي في المجتمع ويقول:” في خضم الصراع في مرحلة التحول قامت أوساط واسعة من النخب السياسية والإعلامية بتجهيل الناس بدلا من تنويرهم، وأقدمت على مخاطبة غرائزهم بدلا من عقولهم، ولم تتورع عن استخدام الكذب البواح إذا لزم الأمر لتجنيد الناس ضد التحول الديمقراطي فمن يتحمل المسؤولية في مثل هذه الحالة، ضعف ثقافة الجمهور، أم ثقافة النخب المعادية للديمقراطية؟ وهي المهمة التي سهلتها “الثقافة السياسية الهشة للقواعد الشعبية قابلة للتعبئة ضد مبادئ الديمقراطية”.
ورقة الدكتور عزمي بشارة عميقة وتحتاج إلى قراءة متأنية ونقاش عميق، وهي الورقة التي استهل بها مؤتمر استضاف مفكرين وباحثين قدموا أوراق عمل تستحق المتابعة لأن كثيرا منها يقدم تحليلا لمجريات ساخنة تؤثر في واقع ومستقبل العرب.