كلما تعرّف العالم الى «النظام الدولي» الذي يدعو اليه فلاديمير بوتين التبس الأمر عليه، لأن النسخة الروسية في تطبيقها السوري أخذت بمزيج من أسوأ ما جاءت به النسخة الأميركية متجرّدة من أي قيم انسانية أو أخلاقية، ولو أن الاميركيين لم ينجحوا دائماً في احترامها. ففي العراق كانوا قوة احتلال، وخارج مظلة الامم المتحدة، ولم تكن فضيحة سجن أبو غريب مفخرة لهم، وعلى رغم محاولات الطمس وإخفاء الحقائق إلا أنها أدّت الى محاكمات ومحاسبات لعدد من العسكريين. كم عدد العسكريين الروس الذين تعرّضوا للمساءلة على جرائم ارتكبوها في الشيشان، على سبيل المثال، أو في «الجمهوريات» الـ 14 التابعة لها وتسعى الى ضم جورجيا اليها، ولماذا قُتلت الصحافية آنا بوليتكوفسكايا عام 2006 بعدما كشفت تلك الارتكابات وقدّمت توصيفاً مبكراً لـ «ديموقراطية بوتين»، أو «الديموقراطية المتهاوية» كما سمّتها؟
تبدو الديبلوماسية الروسية، في مقاربتها للأزمة السورية، وكأنها استنسخت كتاب السلوك الذي تتّبعه الديبلوماسية الأميركية في حمايتها المطلقة وغير المشروطة لإسرائيل. واذا كانت هذه كثيراً ما توصف بأنها دوغمائية متحجرة أو حتى أيديولوجية، فإن اقتفاءها الروسي يبدو تقليداً حرفياً أعمى. وفي المرات النادرة جداً التي جازت فيها إدانة إسرائيل، مجرد إدانة لفظية لا عواقب لها، كانت واشنطن تجهد وتجتهد لتشمل الإدانة «الطرفين» أو «جميع الأطراف»، وحين تكون الجريمة واضحة المعالم ولا مجال فيها لإقحام أي طرف آخر يكون «الفيتو» الأميركي جاهزاً بلا أي مواربة، فلا مجال لإدانة يمكن أن يُبنى عليها لاحقاً. طوال عامين لم تشذّ موسكو على هذا الأسلوب، مانعة صدور أي قرار، على رغم أن المسألة السورية طغت على جدول الأعمال الدولي كما هي اليوم في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كان يحصل أحياناً أن تعتمد الادارة الاميركية لهجتين حيال مخالفةٍ ما للقانون الدولي، اذ تعنّف إسرائيل من واشنطن معبّرة عن موقف شبه مبدئي ثم تسايرها في نيويورك فارضة إرادتها على مجلس الأمن. أما موسكو فلم تُسمع منها كلمة انتقاد واحدة لنظام بشار الاسد، فلا المجازر ولا القصف بصواريخ «سكود» ولا غارات الطيران الحربي ولا استخدام السلاح الكيماوي أخيراً استحقّت منها وقفة، على رغم أن كل مواقف بوتين ووزيره سيرغي لافروف تحرص على إبراز مرجعية «القانون الدولي» وتحاضر في احترامه وضرورة «التطبيق السليم» له.
شكلت الأزمة الكيماوية فرصة ذهبية للثنائي بوتين – لافروف كي يؤدي «رقصته» الخاصة على أنغام القانون الدولي، خصوصاً أن الولايات المتحدة تأهبت للتحرك عسكرياً خارج إطار مجلس الأمن. لم تكن موسكو (ولا بكين بالتبعية) جاهزة لهذا الدور في 2003 عشية غزو العراق لأن جورج دبليو بوش أرسل جيوشه وحشد تحالفه واتخذ قراره، ولا في 2011 عندما مرّرت قرار فرض حظر للطيران فوق ليبيا لأن باراك اوباما جيّر القيادة لرجلين مصممين هما نيكولا ساركوزي وديفيد كاميرون. والأكيد أنه لو كان اوباما على التصميم نفسه لضرب النظام السوري لتكيّفت روسيا مع الحدث على مضض مكتفيةً بالسعي الى إفساده وإقامة صعوبات أمامه أو على الأقل باستغلاله لبيع مزيد من السلاح لنظام دمشق وقبض الثمن نقداً من طهران. غير أن ركاكة الزعامة الأميركية هيّأت لموسكو إعادة انتاج زعامتها إتّكاءً على الأزمة السورية، وتكمن المفارقة في أن الاتصالات الروسية – الاميركية في شأن سورية، على كل المستويات، أكدت أن الدولتين تنتهجان سياسة سلبية تحقق لكلٍ منهما مصالحها بمعزل عن الأخرى أو بمقدار من التواطؤٍ معها، لكنها برهنت خصوصاً أن سياستين سلبيّتين لم تتمكنا من صنع سياسة ايجابية واحدة تُعنى بحل الأزمة، فما يصحّ في الرياضيات لا يصحّ في الديبلوماسية.
يسعى بوتين الى استعادة دور لروسيا اندثر تحت ركام المعسكر الاشتراكي، بل لإعادة انتاج مصطلحات الحقبة العقيمة السابقة وسياساتها لكن من دون اتحاد سوفياتي. ففي الأسبوع الماضي أوضح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف من دمشق أن «القضية السورية باتت تشكل أولوية لروسيا ومحوراً للسياسات العالمية»، وردّ الأسد بأن مواقف روسيا المساندة لنظامه «تبعث على الأمل في رسم خريطة جديدة للتوازن العالمي». فمن سورية المأزومة المدمّرة تنبعث روسيا «الجديدة»، أما «سورية الجديدة» فلا أمل لها بالانبعاث بفضل روسيا التي لا تخفي ولا تنسى أبداً أن أولويتها هي مصلحة روسيا، بطبيعة الحال. ولكي تكتمل عناصر اللغة الخشبية فإن موسكو حددت عناوين سياستها السورية: «حل سياسي، التمسّك بالقوانين الدولية، رفض التدخل باستخدام القوة، واحترام حق الشعوب في رسم مستقبلها». هذه عناوين «مبدئية» تبدو مقبولة لكنها قد تعني، واقعياً، وكما تطبّقها موسكو، عكس ما تقوله تماماً. اذ اتضح جلياً أن «حق الشعوب» عندها هو حق النظام أو «الحكومة القائمة» فمن شأنهما وضع محددات «الحل السياسي» لأنهما متفوّقان في سفك الدماء، وما على المعارضة سوى الرضوخ طوعاً أو تعمد القوى الدولية الى «إجبارها» عليه. أما «التمسّك بالقوانين الدولية» فيكون بتعطيلها إما بـ «الفيتو» أو/ وبإغلاق مجلس الأمن. وإما اللجوء الى القوة، كما بدا الأمر في ادارة ملف السلاح الكيماوي، فيمكن أن يعالج استثنائياً بشيء من «الايجابية» المخادعة، طالما أن تهديد أوباما كان بمثابة فقاعة.
الذهاب الى استخدام القوة لا يناسب «استراتيجية» بوتين، أولاً لأنه يمثل ذروة التحرك الغربي – الاميركي ويضعه أمام خيارات مربكة، وثانياً لأنه يفسد عليه لعبته المفضّلة، أي التحايل في تطبيق القانون الدولي. صحيح أن بوتين قد يجد مصلحة في تورّط الطرف الآخر، لكن اجهاض مشروع الضربات الصاروخية أظهره كمن انتصر في حرب لم يردْها ولم تكلفه شيئاً فيما أظهر أوباما كمن خسر حرباً لم يخضها. وفوق ذلك بيّنت «صفقة كيري – لافروف» أن روسيا احتفظت باليد العليا في ادارة الأزمة، لأنها تمكّنت من فرض منهجها ومفهومها لمعالجة ملف السلاح الكيماوي. لذا تقافزت الاستخلاصات القائلة إن «نظاماً دولياً جديداً» قد ولد، وإن قيادته تؤول الى روسيا بدليل أنها أوقفت – بالديبلوماسية – صواريخ كانت ستعاود تلميع الزعامة الاميركية. وقد أثبتت وقائع التفاوض أن الشروط كانت روسية والموافقة أميركية، وكلاهما صيغ بذهنية الالتفاف على «روح القوانين». وقوام المنهج الروسي أن: لا سبيل لإعمال القانون الدولي (الذي يطالب يومياً باحترامه) لأنه يحظر اقتناء السلاح الكيماوي ويدعو الى معاقبة من يستخدمه، لكن في الحال السوري لا جريمة ولا مجرم ولا عقاب، لكن لدينا السلاح، فلنضع اليد عليه وننهي أمره. وعلى رغم أن هذه العملية لا بد أن تتم – قانونياً – تحت الفصل السابع، إلا أن اتفاقاً بين الدولتين الكبريين يمكن أن يتمتع بقوة أكبر من ميثاق الأمم المتحدة.
لا يعني ذلك أن الروس يتلاعبون بالقوانين الدولية فحسب، بل يعتمدون أيضاً على تفاهمات ضمنية مع الاميركيين. صحيح أن واشنطن تترأس «أصدقاء الشعب السوري» وموسكو تتزعّم «أصدقاء النظام»، إلا أن الدولتين متوافقتان تماماً على شرط أساسي للتعامل مع الأزمة السورية، وهو: أمن اسرائيل أولاً. اذاً، فالتخلّص من السلاح الكيماوي يأتي في سياق احترام هذا الشرط، الذي لم يبلغ بعد وقد لا يبلغ أبداً حدّ التوافق على التخلّص من النظام السوري. هذا ما يعتبره الأسد «توازناً عالمياً»، وبالتالي ضماناً لبقائه، فأمن نظامه من أمن اسرائيل طالما أنه يواصل مهمة القتل الموكولة اليه.
* كاتب وصحافي لبناني