ليس يهم في الوقت الراهن ما إذا كان الفائز في الصراع الدائر في مصر هو قوى التحالف مع العسكر أم تحالف الدفاع عن الشرعية، لأن الخاسر الأكبر في نهاية المطاف هو الوطن.
(1)
حين ذهب اثنان من القياديين في حركة الإخوان للقاء الأستاذ محمد حسنين هيكل في بيته تحول الخبر إلى حدث مثير خلال ساعات قليلة، فأخذ مكانه على الصفحات الأولى من الصحف العربية، وتابعته مختلف القنوات التلفزيونية، حتى تحول إلى موضوع للتعليق والتحليل بعدما اشتم فيه كثيرون رائحة محاولة الخروج من الأزمة الراهنة في مصر.
حسب معلوماتي فإن الزيارة كانت عادية. بدأت باتصال هاتفي مع الأستاذ هيكل من جانب الدكتور محمد علي بشر القيادي الإخواني الذي كان وزيرا للتنمية المحلية في الحكومة السابقة، لكي يخبره بأن الإخوان يستنكرون الاعتداء على مزرعته ومكتبته وأنه لا علاقة لهم بالحادث من قريب أو بعيد، على العكس مما روجت له وسائل الإعلام. وخلال الاتصال دعا الأستاذ هيكل محدثه لزيارته في منزله، وحدد له موعدا في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي. اصطحب الدكتور بشر معه الدكتور عمرو دراج وهو من قياديي الإخوان أيضا وكان وزيرا للتخطيط، ويمثل الاثنان الإخوان في التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية، الذي يضم أحزابا إسلامية أخرى. ونقل عن الطرف الإخوان أن اللقاء ناقش الأوضاع المحلية وأهمية استقرار الوطن لكي يتمكن من مواجهة التحديات التي تهدد الأمن القومي في إطار تلاحم المجتمع. ونقل عن الأستاذ هيكل قوله إنه التقى القياديين الإخوانيين في إطار استماعه لكل الأطراف والآراء وبحكم اهتمامه بالوطن. وكانت هذه العبارات الموجزة التي أكدت أن اللقاء لم يكن استثنائيا ولا مفاوضات فيه ولا مبادرات معبرة بدقة ورصانة عما جرى، إلا أن بعض الأبواق الإعلامية مارست دورها في تلوين الخبر، فادعى أحدهم لإحدى القنوات أن ممثلي الإخوان ذهبا للاعتذار للأستاذ عن الاعتداء على مزرعته، وذكرت بعض الصحف أن اللقاء تم بناء على طلب الإخوان. وادعت صحف أخرى أن الأستاذ ألقى على ضيفيه درسا في السياسة وطالبهما بالانطلاق من «خريطة الطريق». ولم يكن شيء من ذلك صحيحا.
(2)
لم يكن الاهتمام الإعلامي أكثر ما لفت نظري في المشهد، ولكن الرنين الذي أحدثه اللقاء في أوساط عقلاء الطبقة السياسية كان أكثر من اللازم إذ حَمله كثيرون بأكثر مما يحتمل، وتمنوا أن يمثل نقطة تحول تهدئ من الأجواء وتفتح الأبواب للتوصل إلى مخرج من الأزمة الراهنة. وقد وجدت أنه رغم أن اللقاء لم يكن يمثل شيئا مهما في ذلك الاتجاه، إلا أنه يشكل مناسبة لطرح الموضوع.
لعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إن تلك الأصداء جاءت معبرة عن الانتقال من مرحلة إنكار الأزمة في الداخل إلى مرحلة الاعتراف بوجودها. وهي الفكرة التي لاحت في الأفق خلال شهر يوليو الماضي، حين رصدت الأزمة في الخارج وتوافد الوسطاء الأوروبيون وغير الأوروبيين على مصر في محاولة التوسط في حل الإشكال. إلا أن المساعي تراجعت بعد ذلك حين أعلن عن توقف تلك الوساطات وجرى الانتقال إلى مرحلة المواجهة على أرض الواقع التي عبرت عنها الاعتصامات والتظاهرات في جانب، والاعتقالات وتوزيع الاتهامات والاشتباكات التي سقط فيها الآلاف من القتلى والجرحى في الجانب الآخر. لكن من الواضح أنه بعض مضي نحو ثلاثة أشهر لم يحدث متغير أساسي في المشهد. فلا الاعتصامات والتظاهرات أسقطت الحكومة ولا إجراءات السلطة أسكتت صوت الإخوان. ولا نزال حتى الآن نعيش أجواء المواجهة بين قوة السلطة وقوة الفكرة. وتبين أن السلطة أقوى من أن تتراجع وأثبت مما قدر الإخوان، كما تبين أن الإخوان أقوى من أن يقتلعوا بواسطة إجراءات السلطة وملاحقاتها.
صحيح أن التعبئة الإعلامية المكثفة حاولت أن تعطي انطباعا مغايرا، خلاصته أن صفحة الإخوان طويت، وأن قياداتهم صاروا متهمين جنائيين وليسوا سياسيين، وأن الإخوان في حقيقتهم ليسوا أكثر من عصابة مارست أشكالا مختلفة من الاحتيال والإجرام طوال ثمانين عاما، إلا أن ذلك لم يقنع أحدا من العقلاء والراشدين من أهل السياسة في مصر أو خارجها بأن المشكلة انتهت وأن الملف أغلق.
ما حدث لم يكن إنكارا للحقيقة فحسب، وإنما أسوأ ما فيه أنه أسهم في صرف الانتباه عن المشكلات الكبرى والتحديات الأعظم التي تواجه البلد. ذلك أن التعبئة الراهنة أعطت انطباعا بأن مشكلة مصر هي الحرب ضد الإرهاب، في حين أن حربها الحقيقية ضد الفقر والتخلف والغلاء والظلم الاجتماعي، إلى غير ذلك من العناوين التي بدت مؤجلة وغير واردة ضمن أولويات المرحلة، رغم أن الثورة قامت أساسا لأجلها. ولا أريد أن أذهب في سوء الظن إلى حد الادعاء بأن التهويل في مسألة الحرب ضد الإرهاب مقصود وأنه أريد به تغطية العجز عن تحقيق الإنجاز على تلك الجبهات الأخرى. علما بأن الحرب الأولى تخص السلطة ونفرا من السياسيين والمثقفين الذين ربطوا مصيرهم بمصيرها، في حين أن الحروب الأخرى هي التي تهم الملايين العريضة وتستجيب لتطلعاتهم وأحلامهم.
(3)
ليس الأمر مقصورا على الصراع الذي قد يطول أجله بين قوة السلطة وقوة الفكرة، ولا في استغراق الجميع في الحرب المعلنة على الإرهاب التي تشغلهم عن التصدي للتحديات الأكبر والأخطر التي تواجه الوطن، ولكن هناك وجه آخر للمشكلة مغيب في خطابنا السياسي والإعلامي. ذلك أن مصر حين تغرق في بعض همومها إلى ذلك الحد الذي نراه، فإنها تجر معها العالم العربي إلى قاع المستنقع الذي تنزلق إليه. فالذين يعرفون قدر مصر ومكانتها في العالم العربي يدركون جيدا أنها ليست بلدا أو قطرا عاديا، لا تتجاوز نوازله حدوده، وإنما هي واجهة لأمة بل قاطرة لها. وما يجري فيها سلبا أو إيجابا له أصداؤه وانعكاساته في العالم العربي بأسره، من أقصاه إلى أقصاه. من ثَمَّ فأفراحه وأحزانه هي أفراح العرب وأحزانهم في ذات الوقت، وتلك خلفية تسوغ لي أن أقول إن مصر إذا كانت لا تملك خيار الانصراف عن الاهتمام بقضاياها المصيرية، التي تتعلق بعافية البلد ونهضته، فإنها أيضا لا تملك ترف الانكفاء على ذاتها والانسحاب من المشهد العربي، لأنني لأزعم أن مصير العرب ليس فقط مرتبطا بمصيرها وإنما أيضا مستقبل الربيع العربي معلق على مصير الربيع فيها.
في الوقت الذي تنشغل فيه مصر بحربها الداخلية ضد الإرهاب وتسعى لتأجيل معارك مصيرها الأخرى، تسعى إسرائيل إلى إغلاق الملف الفلسطيني واقتسام المسجد الأقصى ذاته، وتتسارع خطى إثيوبيا نحو إقامة سدها الكبير، الذي يشكل خطرا حقيقيا يهدد مستقبل المياه في مصر، وفي الوقت ذاته يرشح السودان للتمزق والتقسيم إلى عدة دول. والكل ينظرون بقلق إلى مستقبل المنطقة بعد سقوط النظام السوري والخرائط اللاحقة له، وأصداء ذلك في لبنان وأثره المباشر على العراق ومستقبل النظام الإيراني. أما اليمن فأوضاعه لم تستقر على الأرض حتى أصبح مهددا بالانفصال في حين أن فضاءه مستباح بطائرات «درون» بغير طيار الأمريكية. وليبيا تتعثر في مسيرتها ولا تزال القلاقل تهددها حينا بعد حين. وتونس تنظر بقلق إلى ما يجري للربيع في مصر، والجزائر تتحسب لمرحلة ما بعد بوتفليقة. المتشبث بالسلطة رغم مرضه ومن ورائه العسكر يراقبون. أما دول مجلس التعاون الخليجي التي أخافها الربيع العربي تضغط بشدة مستخدمة الآلة البوليسية لحصار تجلياته في الداخل، ومستثمرة قدراتها المالية لتحويل المد فيه إلى جزر في الخارج.
في خضم تلك الأجواء التي يتعرض فيها العالم العربي إلى التفكيك وإعادة التركيب وفقا لمصالح قوى الاستبداد التقليدية المرتبطة بالمصالح الأمريكية، فإن مصر البلد القائد لا يصح لها أن تغيب أو تنكفئ، لأنها في هذه الحالة لا تجرم بحق نفسها فقط، ولكنها تجرم بحق العرب أجمعين.
(4)
عدم استقرار الوضع في مصر يجب ألا يستمر. ذلك أنه بعد ثلاثة أشهر لا يزال القلق مخيِّما. فالطوارئ جرى تمديدها لشهرين آخرين مصحوبة بحظر للتجوال. والدبابات والمدرعات والأسلاك الشائكة تتوزع على أرجاء الوطن. والاقتصاد مشلول وخطوط السكك الحديدية الرئيسية متوقفة والاعتقالات مستمرة والمحاكم العسكرية منعقدة طوال الوقت. والشائعات تتردد مرة عن تعطيل شبكات المترو. ومرة ثانية عن قطع الطرق العمومية والجسور. وثالثة عن مداهمات لقرى وبلدات لا نعرف ماذا يجري فيها للمواطنين العاديين أو للأقباط. وفي لحظة كتابة هذا المقال كانت الأخبار تترى عن حصار بالدبابات والمدرعات لبلدة كرداسة بمحافظة الجيزة وعن إطلاق نار طول الوقت، وتنبيه على السكان بعدم مغادرة بيوتهم.
إن مصر لا تستحق كل ذلك. لا مصر الوطن ولا مصر الأمة. وحين أقول إن ذلك الوضع ينبغي ألا يستمر فإنني لم أفكر فيما إذا كان الذي حدث هو انقلاب أم ثورة. ولست مشغولا بمن المخطئ ومن المصيب، لكنني أزعم أن الوطن والأمة معا بحاجة إلى طرف شجاع يتقدم لكي يطفئ الحريق وينقذ مصر من الرياح المسمومة التي هبت عليها وأطلقت فيها وحوش الغضب والثأر والانتقام ودعوات الاقتلاع والإبادة. وهو ما يدعوني إلى طرح السؤال التالي: من يتجرع السم ليسدي للوطن تلك الخدمة في اللحظة الراهنة؟ ولمن لا يذكر فإن المصطلح استخدمه الإمام الخميني وهو يعلن في عام 1988 استجابته لقرار وقف إطلاق النار في الحرب مع العراق، وكان قد رفض القرار قبل عام سابق، وأعلن أنه سوف يستمر في الحرب حتى إذا طالت لعشرين سنة قادمة. لكنه اضطر إلى التنازل عن كبريائه وعناده حين أدرك أن عدد القتلى الإيرانيين وصل إلى مليون والمعوقين صاروا مليونين والمشردين أصبحوا أربعة ملايين، فتراجع وأصدر بيانه الشهير الذي أعلن فيه أنه اختار أخيرا أن يتجرع السم ويوقف إطلاق النار.
إنني لا أتصور عقلا أن أطالب السلطة القائمة بتلك الخطوة، ليس فقط لأنها معتمدة على الجيش والشرطة ولكن أيضا نظرا للتأييد الشعبي الواسع لها، لذلك فإنني أتوجه بالنداء إلى الإخوان المسلمين وحلفائهم، وتلك مغامرة شخصية من جانبي لم أستشر فيها أحدا ولا أعبر فيها عن أحد. في هذا الصدد فإنني أدرك فداحة الثمن الذي دفعه الإخوان، وقدر الظلم الذي وقع عليهم، كما أنني أقدر مشاعر قواعدهم، إلا أنني أثق في حكمة ووطنية قياداتهم. وأذكرهم بأن القرآن علم المسلمين منذ قرون عديدة أن يكونوا «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين»، راجيا أن يكونوا من هؤلاء ـ لي بقية كلام في الموضوع أعرضه في الأسبوع المقبل بإذن الله.