إذا وضعنا التفاصيل الصغيرة جانباً، ومعها المناشدات الإنسانيّة والأخلاقيّة التي تتجاهلها سياسات كبرى ضعيفة الإنسانيّة والأخلاقيّة، تراءى أنّ قدراً من سوء الفهم العميق يفصل بين الثورة السوريّة والولايات المتّحدة الأميركيّة، أو بالأحرى، أنّ صورة كلّ منهما عند الأخرى لا تشبه صورتها الفعليّة.
فمفاد المناشدات التي تخرج من المعارضة السوريّة للولايات المتّحدة، أو الانتقادات التي توجّهها إليها لعدم استجابتها تلك المناشدات، هو الرغبة في انزياح بوشيّ عن الأوباميّة. وهذا ما يعني، شئنا أم أبينا، أنّ نجاح الثورة السوريّة، وثورات أخرى غيرها، مرهون بسياسة أميركيّة أكثر تدخّليّة ومبادرة. فحين يضعف «بوليس العالم»، الذي لا يريد أوباما أن يكونه، تقوى الأنظمة البوليسيّة من كلّ نوع.
الإقرار بتلك الحقيقة يقوّي حجّة خصوم الثورة السوريّة الذين «يتّهمونها» بالهوى الأميركيّ، مع أنّ ذاك الهوى لم ينتج هوى يقابله ولا معونات تترتّب عليه. وهو أيضاً يُضعف حجّة بعض مؤيّدي الثورة من مواقع «يساريّة» أو مناهضة للولايات المتّحدة.
بيد أنّ ما هو أهمّ من هذا وذاك أنّ «خطاب» الثورة يبقى في المحطّة الرماديّة حيال إعلان تلك الرغبة، وكثيراً ما يعلن نقيضها، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بمسائل غير سوريّة، عراقيّة أو فلسطينيّة. هنا، تفعل الرواسب الإيديولوجيّة فعلها الكابح. وبدوره، لا يبدو الانزياح البوشيّ وارداً في الولايات المتّحدة (وأوروبا الغربيّة) حيث تستند الأوباميّة إلى مزاج شعبيّ صاعد أكثر انعزاليّة وعزوفاً، من دون أن تهزّه مخاطبة تذهب إلى وحدة المصالح أو تقاطعها.
أمّا الثورة السوريّة، وعموم الثورات العربيّة، فوظيفتها الأهمّ، في التصوّر الأميركيّ، مكافحة التطرّف الجهاديّ. وحين تُدان أنظمة الاستبداد العسكريّ، وفق ذاك التصوّر، فإنّما تُدان بسبب ما تُحدثه من كبت وقمع يولّدان ردوداً إسلاميّة متطرّفة تعود على الغرب بالإرهاب. وقد سبق لأصحاب هذا التصوّر أن وجدوا ضالّتهم حين تراجع نشاط «القاعدة» مع انطلاقة الثورات، وحين قُتل أسامة بن لادن فلم تكترث للأمر القوى المحتشدة في الميادين والساحات.
وهذا، بدوره، لم يعد واقع الحال. فمن دون أن تكون الثورات إسلاميّة، يبقى أنّ العنصر الإسلاميّ قويّ فيها لأسباب عدّة منها القمع الذي واجه الإسلاميّين لعقود مديدة. وهذا فضلاً عن ثنائيّة الأقلية – الأكثرية التي تحكّمت طويلاً بتركيبة السلطة والقمع في المجتمعات العربيّة، لا سيّما منها مجتمعات المشرق.
إلى ذلك، ومثلما عمل تمويه المطالبة بالانزياح البوشيّ على تمتين الشعور الانعزاليّ في الغرب، خصوصاً لجهة التعثّر في مخاطبة رأيه العامّ، عمل الاستنكاف الغربيّ عن التدخّل على تعظيم النفوذ الجهاديّ في الثورات، خصوصاً منها الثورة السوريّة. هكذا ابتعدنا جدّاً عن الأيّام التي مرّ فيها مقتل بن لادن مرور الكرام، وبتنا في مواجهة أوضاع يوجزها اعتصار «الجيش السوريّ الحرّ» بين «جيش الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» وجيش النظام وسلاحه الكيماويّ. وأبعد من ذلك أنّه بات أقرب إلى المستحيل دمج المواجهتين، تلك التي تخوضها الولايات المتّحدة مع النظام السوريّ وحلفائه الروس، وتلك التي تخوضها أكثريّة الشعب السوريّ مع النظام نفسه.
وربّما كانت هذه اللوحة القاتمة فصلاً آخر يضاف إلى كتاب سميك عن أزمة علاقتنا بالغرب وفهمنا له وأزمة علاقة الغرب بنا وفهمه لنا.
حازم صاغية/الثورة السوريّة وأميركا: سوء فهم قاتل
18
المقالة السابقة