قابل الصهاينة الاتفاق الروسي ـ الأميركي المتعلق بالكيميائي السوري بالنقيضين، ارتياح بادٍ وقلق عميق، أو ما هما الآن مثارا جدل يضرب أطنابه في الكيان الصهيوني وقد يستمر إلى حين. الارتياح مبعثه منجاتهم من تداعيات اندلاع حرب يرجحون أنها ستطولهم، أوليس لهم من ضامن بأنها ستستثنيهم، كما ولا يمكن لأحد توقع مآلاتها. وقلق مرده خيبة تأتت لهم بسبب من أوقف التهديد الأميركي لسوريا، وهذا يزيده ما كشفت عنه المبادرة الروسية، التي تُوِّجت باتفاق جنيف بين لافروف وكيري حول ملف السلاح الكيميائي السوري، ثم ما تبع من حديث حول مؤتمر جنيف 2 لتسوية الأزمة السورية، باعتبار انعقاده بات من استحقاقات هذا الاتفاق، وكان من شأن إبرامه أن يسرع في توقع اقتراب انعقاده ويرجحه، الأمر الذي عدوه مؤشر ضعف أميركي قد ينسحب على مسألة معالجة الأميركان للملف النووي الإيراني، وإجمالًا قرأوا ما بين سطوره ما يدل على تبدل في موازين القوى الكونية ليس في صالحهم.
لقد تنازعتهم خلال الأيام التي سبقت الاتفاق كل من الخشية من عواقب العدوان وحماستهم له وترحيبهم به، لكنهم، ونظرًا لطبيعة كيانهم العدواني الاستعمارية، وكجسم هش غريب ترفضه وتلفظه المنطقة، وحيث تلوثهم لهذا حالة مستعصية من فوبيا وجودية دائمة، قد أثار ذعرهم وأيقظ فوبياهم هذه من غفوتها مدى ما كشفت عنه المبادرة الروسية من بوادر تحولات كونية وإقليمية، لعل تعاظم الدور الروسي من أبرزها … وهي التحولات التي كان قد سبق وأن وصفها نتنياهو بقوله: “إننا نعيش هزة أرضية إقليمية لم نشهد لها مثيلًا منذ قيام الدولة”، كما أنها ذاتها التي دفعت بيريز للعودة للحديث مجددا عن شرق أوسط جديد، لكنه المختلف هذه المرة عن “شرق أوسطه” المعروف الذي بشَّر به سابقًا ولم يتحقق ولن يتحقق له.
كان لهذا القلق دوره في مسارعة كيري عقب الاتفاق مباشرة للكيان الصهيوني، وتصريحاته المترتبة في القدس المحتلة، من مثل، إن الخيار العسكري ما زال قائمًا، وإن الاتفاق سيؤدي إلى إزالة “كامل الترسانة الكيميائية” السورية، وإن ما تم إنما يشكل “إطارًا وليس اتفاقًا نهائيًّا”! لكنما تطمينات كيري هذه لم توقف الارتباك ولم تحد من القلق لدى حلفائه اللذين يتواصل انعكاسهما، وعلى كافة المستويين الرسمي المتكتم والإعلامي الضاج، حيث يظل التحذير من عودة روسيا من البوابة السورية، والإشارة إلى شعبية بوتين المتعاظمة، بل وهناك من يتحدث عن أن قيصر الكرملين قد انتزع تفويضًا غربيًّا بمعالجة الأزمة السورية، وحتى حد وصف الرئيس الروسي بأنه “أقوى رجل في العالم”. كما لم يكتم الصهاينة خشيتهم من ربط نزع السلاح الكيميائي السوري بالمطالبة بنزع الكيميائي والبيولوجي والذري في ترسانتهم المتخمة، إذ من المعلوم أن الكيان قد وقَّع على ميثاق حذر نشر السلاح الكيميائي في العام 1993، ولكنه لم يصادق عليها في الكنيست، ووصل الأمر حد تساؤل صحيفة “هآرتس” عما إذا كان هذا السلاح قد بات عبئًا على الكيان … لم يطل انتظارهم، آخر ما صدر عن الرئيس الروسي من مواقف تمثل في قوله: “أريد أن أذكِّر بكيفية ظهور هذا السلاح الكيميائي: كبديل لسلاح إسرائيل النووي”، وزادهم، فشدد على وجوب “العمل على نزع صفة النووي عن مناطق معينة، وخصوصًا الشرق الأوسط”، والأهم هو وصفه للعدوان على سوريا بأنه إنما يشكِّل “ضربةً موجهةً للنظام العالمي وليس لسوريا”.
لقد بذل كل من المستويين السياسي والإعلامي الصهيونيين جهدًا في سبيل طمأنة مستوطني الكيان، كتغنيهم بأن نزع الكيميائي السوري يعد بالنسبة لهم مكسبًا لم يدفعوا ثمنه، وتشبيههم لأنفسهم في هذه الحالة بمن ربح ورقة يانصيب دون أن يشتريها، لكنما لسان حال هذين المستويين ومستوطنيهم ظل هو ما عكسته صحيفة “معاريف” في قولها: إنه “في السنتين الماضيتين، منذ تصفية القذافي، وروسيا تشهد تقدمًا اقتصاديًّا وتصاعدًا في نفوذها السياسي في العالم. ومقارنة بها، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا في حالة هبوط. ولا تخجل محافل أميركية من الاعتراف بأنه يتزايد جدًّا الميل الأميركي إلى الانعزال التقليدي الذي بموجبه ينبغي النظر إلى التطورات خلف المحيط كمواضيع ليست من شأننا، فصدمة العراق وأفغانستان لاذعة” … إنها الفوبيا ذاتها تستيقظ لديهم على وقع تراجع احتمالات العدوان الأميركي المزمع على سوريا. ها هم اليوم يرددون ما قاله قائلهم بالأمس عندما استشعروا مبكرًا بوادر الانكفاء الأميركي في العراق: سيرحل الأميركان وسيتركوننا هنا وحدنا…
لقد لخص بيريز نظرة الصهاينة لمجمل الأزمة السورية عندما اعتبر أن كل ما حدث في سوريا هو بمثابة عقابٍ لها؛ لأنها لم تدخل فيما تسمى المسيرة التسووية التي يديرها الأميركان لصالح الكيان الصهيوني والهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، وبالتالي فمن هذه الزاوية فحسب هم ينظرون إلى اتفاق جنيف ويحاكمون الاستحقاقات المتوقعة المترتبة عليه، وهم إن أراحهم التوصل إليه في جانب تفادي خطورة تداعيات الحرب عليهم، لا يسرهم من جانب آخر ملاحظة كونه إنما يكشف عن عودة روسية لا يرحبون بها وعن تراجع أميركي يقلقهم، كما لا يريحهم أنه يشكل حاجةً لكل من طرفيه، بحيث ما كان إلا لأنه تلافٍ لعدوان بالنسبة لسوريا، ومخرج للمعتدي الأميركي من ورطة تهديده بشن عدوانه وسبيل لتلافي عواقبه وتجنُّب تداعياته.
عبد اللطيف مهنا/الصهاينة قلقون .. عودة روسية وتراجع أميركي
13
المقالة السابقة